• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الثوابت والمتغيرات في ضوء القرآن الكريم والسنّة

د. خالد سليمان حمود الفهداوي

الثوابت والمتغيرات في ضوء القرآن الكريم والسنّة

في اللغة الثابت: اسم فاعل من ثَبَّتَ الشيء ثباتاً وثبوتاً، فهو ثابت وثبيت، وثبت. ويقال: ثبت _ مُحرَّكة – على العدل الضابط، وقد يسكن، ويقال ثَبْتٌ – بالتّسكين – على الكتاب الذي يُذكر فيه الأسانيد، والجَمْع الثوابت.
والثبات فيه معنى الدّيمومة والإستمرار والمًُلازمة والبقاء، وفي القُرآن الكريم: (.. كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم/ 24)، و(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ...) (إبراهيم/ 27)، وفيه: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد/ 39)، وفيه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ...) (البقرة/ 265)، وفيه: (.. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) (النساء/ 66).
والمتغيِّر اسم فاعل من تغيَّر، ومعناه تحوَّل، ويُقال: غيَّره إذا جعله غير ما كان وحوَّله، وبدَّله، وفي التنزيل: (.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11)، وفيه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الأنفال/ 53).
والثابت والمتغيِّر اصطلاحان حديثان سَرَيَا في كلام أهل الشريعة من لدن الأدباء؛ حيثُ تكلَّموا في الأدب عن الثابت والمُتحوِّل، وعَبَّرَ بعضهم عن ذلك بالثابت والمُتغيِّر، وتوسَّع آخرون – في ظلِّ إضطراب المُصطلحات في عصرنا – إلى التعبير عن ذلك بالإصالة والمُعاصرة، وبالقديم والحديث، وبالمُطلق والنّسبي، وبالتُّراث والحداثة، وكُلٌّ من هذه المُصطلحات الثنائية وُضعت بإزاء معانٍ مُختلفة بينهما فوارق شتَّى، إلاَّ أنَّ الأمر أصبح فوضى في إستعمال المُصطلحات بإزاء المفاهيم.
والتّقابل بين الحادث والقديم شغل بال الأوَّلين من الفلاسفة وعُلماء الكلام، إذ مثلث العلاقة بينهما مُشكلة كبيرة نَتَجَ عنها – في محاولة حلِّها – القول بالحُلول والإتِّحاد، والقول بالقَدَر، والجَبْر، والإختيار، والقول بحوادث لا أوَّل لها، والقول بوجود ما لا نهاية له في عالم الموجودات، وغيرها من المسائل والمُشكلات التي نتجت عن تلك الثنائيّة، والتي تُرشدنا إلى وُجوب دقة فهم العلاقة التي من هذا النوع.
ومثل تلك العلاقة ما بين الثابت والمُتغيِّر، والأمر لإدراك مثل هذا يتوقَّف على فهم الطّرفين أوّلاً، ثمّ فهم العلاقة بينهما، فما معنى الثابت في الشريعة؟
أطلق العُلماء على هذا الجانب مرّة (الإجماع الأصولي هي نفسها المعلوم من الدِّين بالضرورة، وهو ذلك القدر الذي يُمثِّل دين الإسلام، ويُمثِّل هويَّته وحقيقته؛ بحيثُ لا يُتصوَّر إسلام بدونه، وهذا القدر يمكن – باطمئنان – أنْ تطلق عليه (الثابت): لأنّه يُلازم حالة واحدة وصورة واحدة لدى جميع أشخاص الأُمّة في كُلَّ مكان وزمان، وعلى كُلِّ حال، وهي الجهات الأربع للتغيُّر.
ولقد اتَّفق المسلمون على وقوع الإجماع وعلم المُجتهدين به، وصحة نقله للأُمّة في مساحة ما هو معلوم من الدِّين بالضرورة، ويُسِّميه الشّافعي: إجماع العامّة، وذلك كإجماعهم على وُجوب الصلاة والزكاة والحج وصيام رمضان، (وليس شوّال ولا مُحرّم مثلاً)، وأنّ الوضوء شرط للصلاة، وأنّه قبلها (وليس بعدها كما يُمكن أن يُوصل إليه التحليل اللغوي للآية)، وأنّ البيع حلال، والزواج حلال، وأنّ هناك أحكاماً للإيلاء، والظهار، والطلاق، والقصاص، والحدود، وغير ذلك من مُستويات الإجماع، حتى يصل إلى أنّ الطواف إنّما هو بجوار البيت عن يسار الطائف، وأنّ البدء يكون بالصفا، وأنّ النبي (ص) مدفون في المدينة، وأنّ القبلة هي الكعبة، وأنّ السرقة، والزّنا، والربا، والقتل، والعُدوان، والخمر، والخنزير، والميتة، حرام.
أمّا إجماع الخاصة – وهم المُجتهدون – فقد وقع النزاع في إمكانه، ثمّ في صحته، ثمّ نوعه المقبول.
أمّا المُتغيِّر في الشريعة الإسلامية فهو: ما كان محل ظنٍّ ونظر، والظنُّ إدراك الطرف الراجح، والنظر ترتيب أمور معلومة للتوصل بها إلى مجهول، فهو مُكوّن من مُقدِّمات قد تكون ظنِّية تحتاج إلى إقامة دليل وبيان جهة دلالاته، ومن هُنا يُمكن مناقشة الدليل، ويُمكن مُناقشة دلالته على المدلول، وبذلك يُخرج المسألة من حدِّ الثبات إلى حدِّ التغيُّر.
ومساحة كل النظر في الشريعة قليلةٌ في أصول الأبواب، كثيرةٌ في فروعها، فالثّابت في جُملة الواجبات والمُحرمات كبير، ولكن؛ في فرُوعها المُتغيِّر هو الكبير.
فيُمكن أن نقول: إنّ الفروع الخارجة عن الإجماع – والتي هي محلُّ نظر وتفكُّر – تمثِّل جُزءاً من المتغيِّر.
وربّما يأتي الإختلاف في المتغيِّر من تغيُّر الأحكام والفتاوى، وذلك أنّ هُناك فرقاً بين كل من الفقيه والمُفتي والقاضي.
لقد جاء الإسلام العظيم لتحقيق أهداف مُحدَّدة في حياة الإنسان والمجتمع، فهو يدور معها عبر كتابه العظيم وسُنة نبيِّه (ص) المطهرة، فهُناك ثوابت حدَّدها الشارع لا يجوز – شرعاً – تجاوزها.
لقد حدّدت القاعدة الشرعية منطلق الفهم؛ وهي (لا إجتهاد في مورد النصّ)، فكل نصّ شرعي يُعدُ من الثوابت التي لا يجوز تبديلها، فمن الثوابت أركان العقيدة في الإسلام التي أجمعت عليها الأُمّة من الإيمان بالله، وملائكته، وكتُبه، ورُسُله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرّه، وكذلك أصول الأخلاق والسلوك، وكذلك أركان العبادات الثابتة التوقيفية، أمّا غير هذه الأمور فهي تُعَدُّ من المُتغيِّرات التي يجتهد فيها المُسلمون على وُفق مُقتضيات مصلحة المُجتمع المُسلم، بناءً على أصول الشريعة ونُظُمها العامة، ويجوز لهم أن يقتبسوا من الأُمم الأخرى كل ما يُصلح الحياة، ولا يتناقض مع نصوص الشريعة.
فلا يمكن للأُمّة الإسلامية أن تناقش توحيد الله – تعالى – بوصفه من الثوابت الأساسية في عقيدة الأُمّة، ولا يجوز لها أن تُناقش عدد ركعات الفرائض، ولا مقدار الزكاة، باعتبار ذلك منصوصاً عليه في نصوص الشريعة ونُظمها العبادية، بينما يُمكن للمُجتهدين من الأُمّة أن يُناقشوا مُؤسسات النظام السياسي في الإسلام، باعتبار أنّ الشارع تركها طليقة يتحدد الموقف منها بناءً على المصلحة الشرعية وثوابت المنهج السياسي الإسلامي.
لقد أعلن النبي (ص) دين التوحيد في مكة المُكرَّمة، وبقي يُصلِّي في الكعبة وفيها ثلاثمائة وستُّون صنماً، ولم يستهدف تكسير صنم واحد منها؛ لأنّه أراد أنْ يبني القاعدة أوّلاً، وقد حصل ذلك عبر تخريج المُتربِّين في مدرسة دار الأرقم.
إنّ الثابت الأوّل في عملية التغيير في الإسلام هو عقيدة التوحيد، وهو منهج مُشترك لجميع الدعوات الرسالية:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)(الحجر/94)
وأمّا الثابت الثاني فهو أن لكل نبي عدواً: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ...) (الفرقان/ 31). وكان هذا العدوُّ يبرز دائماً بعد أن يُبلِّغ بالرسالة، ويدعو إليها، فيأخذ على عاتقه مُحاربتها والكيد لها ولصاحبها، فيكون هو دائماً البادئ بالحرب والعداوة وإغلاقه لباب الحوار والجدال الحسن.
إنّ كلَّ ما يتعلق بالعقيدة، والعبادات، والمرجعية، والحلال، والحرام، ومُختلف التعاليم الأساسية، يدخل ضمن الثوابت، أمّا ما يتعلق بخصوصية وضع ما في الزمان والمكان من جهة السلطة، والعلاقات، والتركيبات الإجتماعية، وموازين القوى، وأشكال الصِّراع، فهذه كلّها تدخل ضمن المتغيِّرات، لكن التعامل وإياها يجب أن يظلَّ مُرتبطاً بالهدف الكُلِّي وبالمرجعية الإسلامية، وهو يُحسن مُعالجتها وإنزال النصِّ على واقعها المُتغيِّر.


المصدر: كتاب الفقه السياسي الإسلامي

ارسال التعليق

Top