• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أربع معجزات لسيدنا سليمان (ع)/ ج1

د. عمرو خالد

أربع معجزات لسيدنا سليمان (ع)/ ج1

معجزات سيدنا سليمان:

لقد أعطى الله سيدنا سليمان (ع) أربع معجزات مبهرات، لم يعطها لأحد من العالمين، ربما كان له ذلك نتيجة لما دعا به ربه قائلاً: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (ص/ 35)، والمعجزات هي: الأولى: عُلِّم منطق الطير، يقول الله تبارك وتعالى: (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (النمل/ 16)، فكان له القدرة أن يسمع ويفهم الطيور وهي تكلم بعضها، وعُلِّم لغة الحشرات فأصبح يسمع الحشرات وهي تكلم بعضها وتصل ذبذبات الصوت إلى أذنه، انظر إلى النعمة العظيمة! المعجزة الثانية: هي تسخير الجن له: (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (ص/ 37)، الشياطين أصبحت مسخرة لسيدنا سليمان، منهم الذي يبني ومنهم البحارة الذين ينزلون إلى أعماق البحار ليستخرجوا اللؤلؤ. يقول الله تبارك وتعالى واصفاً هذا العمل الذي كان يقوم به سليمان: (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) (سبأ/ 12-13)، يستخدم الجن في عمل المساجد: (مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ)، وهي وقتها لم تكن محرمة: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)، أي: الآنية التي تستخدم للشرب: (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) (سبأ/ 13)، مثل العمارة الموضوع تحتها عواميد لتمسكها، كلّ هذا كان من عمل الجن يعني: لم يستخدم الجن في الخرافات لكن استخدم الجن لنصرة الله تبارك وتعالى ولنصرة دين الله وهذه كانت خصوصية لسليمان (ع)، ولا يجوز لأحد أن يسخّر الجن بعد ذلك، يقول الله تبارك وتعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ) (الجن/ 6)، يعني: يستعينون، (بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (الجن/ 6)، أرهقوهم إرهاقاً شديداً وجعلوا حياتهم نكداً، وما من أحد استعان بالجن إلا ومات بعد ذلك ميتة سيئة شديدة.

المعجزة الثالثة: تسخير الريح له، يقول الله تبارك وتعالى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) (ص/ 36)، يشير للريح ويقول: شد هذه السحابة من هنا والقها على قرية لا يوجد فيها زرع، واستخدم حتى الريح لنصرة الإسلام.

 

إن قال فقد صدق:

طبعاً أهل أوروبا يعتبرون هذا ضرب من الجنون، لكن في عقيدتنا أول كلمة في كتابنا: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة/ 3)، لذلك نصدق أنّ الله مالك الكون، وطالما أنّ الأمر وارد بأية صريحة وبحديث صحيح علينا أن نوقن بصدقه، يقول الله تبارك وتعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ) (سبأ/ 12)، كانت الريح تنقل بساط سليمان، آخر معجزة أعطاها الله لسيدنا سليمان (ع) كانت تسخير المعادن له، يقول الله تبارك وتعالى: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) (سبأ/ 12)، عين القطر عن نحاس مذاب يصنع منه أسلحة، واضح أنّ قضية نصرة الإسلام وعزة الإسلام كانت تملأ عقل سيدنا سليمان..

 

بم ابتُلي سليمان؟

سخّر الله لسليمان ما لم يسخره لغيره، وأوتي معجزات كثيرة، وبالرغم من ذلك ابتُلي ابتلاءً شديداً حيث أصيب بمرض مقعد، ستقول: لماذا حدث له هذا؟ يعلمنا الله تبارك وتعالى معنىً عجيباً: هو أنّه ليس معنى أنني أسخر لك كلّ شيء لن أبتليك. الابتلاء يجب أن يقع.. وإياك أن تظن أنّ سيدنا سليمان أوتي كلّ هذه الأشياء بقدرته هو. لا، والدليل أنّه ابتُلي بمرضٍ شديدٍ مقعد. قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) (ص/ 34)، تحوّل لجسد بلا حراك فكان يقعد ويلقى على كرسيه فلا يتحرك: (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ)، لما أكثر من التوبة والعودة إلى الله تبارك وتعالى شفي من هذا المرض.

وأيضاً كان سيدنا سليمان (ع) يحب الخيل كثيراً، ففي يوم من الأيام عرضت عليه مجموعة من الخيل وكان معجباً بها وينظر إليها حتى فاته ورده من الصلاة فأمر أن يخرج كلّ هذه الخيل في سبيل الله.

 

موهبة سليمان:

يوجد هنا معنى نريد أن نؤكد عليه، وهو أنّ الله تبارك وتعالى أعطى له موهبة جميلة جدّاً، إلى جانب كلّ هذه النِعَم التي أعطاها الله له، وهي أيضاً موهبة القدرة على الحكم والقضاء لدرجة أنّه كان يرد سيدنا داود (ع) في حكمه رغم أنّه ابنه، فيضرب لنا القرآن مثالاً وأيضاً تورد الأحاديث النبوية تورد لنا نماذج لأحكامه، يقول الله تبارك وتعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ...) (الأنبياء/ 78-79)، ما الموضوع؟ الموضوع أنّ سيدنا داود (ع) جاء له اثنان حدث بينهما مشكلة، أحدهما عنده أرض زراعية والثاني عنده غنم، فالرجل صاحب الغنم نسي ليلاً أن يغلق الباب عليهم، فدخلت وأكلت من حرث الرجل صاحب الزرع، فحكم داود لصاحب الزرع بأن يأخذ الغنم مكان الأرض التي بارت، حكمه صحيح أنت أفسدت له الزرع بالغنم فيأخذ من غنمك، وخرج الاثنان فقابلهما سيدنا سليمان فسألهما: ماذا حكم لكما داود؟ فقالا له: حكم لنا بكذا وكذا، يقول الله – عزّ وجلّ –: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، أتى بحكم أحسن من هذا، حكم بأمر جميل جدّاً وهو أن يأخذ صاحب الزرع الذي فسد الغنم ليحلبها ويستفيد منها، وعلى صاحب الغنم أن يأخذ أرض صاحب الزرع ليزرعها له مرة أخرى وينميها له، وبمجرد أن ترجع الأرض كما كانت يسترد الرجل غنمه، انظر لحكم سيدنا داود (ع)، ليس خطأ لكن هناك الأفضل منه، فذكر الله تبارك وتعالى هذه القصة في القرآن ليقول لنا: أنت أيضاً استخدم عقلك وذكاءك فالعقل والطنة وفهم الأمور من الإسلام ومن الدين.

 

عليّ بالسكين:

هناك قضية أخرى حكم فيها سيدنا سليمان (ع) حكماً جميلاً وهي في حديث يرويه البخاري وهو: أنّ هناك اثنتين من النساء كلّ واحدة منهما أنجبت طفلاً رضيعاً، فالسيدة الكبرى ابنها الرضيع مات فخطفت ابن الصغرى وقالت: هو ابني وكادت أمه الحقيقية وهي – الصغرى – تجن؛ لأنّ ابنها أُخِذَ منها وأصبح مع السيدة الأخرى، فقال سليمان (ع): إن اختلفتما عليّ أشقه بالسكين لكما نصفين فإذا بواحدة منهما قامت بسرعة وقالت: لا، دعه يحيا، هو لها هو لها، قال: فأنتِ أمه، كيف استطاع أن يصل لهذه الفكرة! وهو أنّ قلب الأم سيغلب؟

 

قاضٍ عجيب:

سيدنا عليّ بن أبي طالب (ع) كان له هذا الفهم، فقد حكم بقضايا يستعجب الإنسان لحكمه، أروي لكم مثلاً قصة حكم فيها، وهي قصة عجيبة جدّاً، يقول: كان في الكوفة بئر مياهه ضحلة فسقط أسد في البئر، فاجتمعت الكوفة كلها لتتفرج على الأسد فمن شدة تزاحم الناس سقط واحد وهو يقع تمسك بشخص فشد رجلاً، فالرجل شد الثاني والثاني شد الثالث والثالث شد الرابع والرابع لم يستطع أن يشد أحداً، ووقعوا الأربعة وتسبب الأسد في موتهم فأتى أهالي الأربعة يريدون الدية، في ذلك الوقت من يموت بهذه الصورة، ديته مائة ناقة فالأهالي يطلبون مائة ناقة، عندنا مشكلة بماذا سيحكم لكلِّ واحد؟ ومن الذي سيدفع الدية؟ فحكم للأوّل الذي وقع أوّلاً بخمسة وعشرين ناقة وللثاني بخمسين ناقة، وللثالث بخمسة وسبعين ناقة وللرابع بمائة ناقة، لماذا حكم بهذا؟ لماذا حكم للأول بخمسة وعشرين والمفترض أن يأخذ مائة لكنه وهو يقع كان سبباً في وقوع ثلاثة، فخصم منه ربع من كلّ واحد فأخذ ربعاً فقط، والثاني أوقع اثنين فأخذ خمسين والثالث أوقع واحداً فأخذ خمسة وسبعين والرابع لم يتسبب في وقوع أحد ليس له ذنب فأخذ مائة.

وتبقى المشكلة من الذي سيدفع الدية؟ فسبب زحام الناس أوقع كلّ هؤلاء، انظروا لعقول الأنبياء والصحابة ولفهمهم، انظر إلى ذكاء حين يرتبط بالإيمان كيف يكون؟ نريد من المؤمنين أن يكونوا مثل ذلك.

 

العلم أعظم النِعَم:

يقول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل/ 15)، انظر ماذا أعطى الله لسليمان ولداود؟ أعظم منّة منَّ الله عليهما هي العلم، هذا هو ديننا هذا هو قرآننا، انظروا إلى علم المسلمين الآن علم ضعيف، فالله سخر لسليمان الريح والجن، لكن أعظم شيء منَّ الله تبارك وتعالى به عليهما: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) (النمل/ 15)، هل منكم من يقرأ غير الكتب المقررة عليه في المنهج الدراسي؟ هل منكم من يبحث عن الجديد في مجاله ليقرأ عنه؟ كيف تكون هناك أمة يقول الله لها في مصحفها هذا الكلام ولا تتعلم؟ كيف يكون أوّل أمر في ديننا: (اقْرَأْ) (العلق/ 1)، وأوّل كلمة اقرأ ولا نقرَأ؟

سافرت إنجلترا فترة، كنت في صباح كلّ يوم أوّل ما أركب (مترو الأرض) تجد أغلب الناس تقرأ إما في كتاب أو جريدة أو رواية، لا يوجد شيء اسمه (أنك سرحان) في اللاشيء مثلما نقعد نحن! بل كلّ إنسان عنده ما يتعلمه ولهذا سبقونا، نحن أصبحنا أمة غير متعلمة، أراد الله تبارك وتعالى أن يزكيهما بالعلم، يا شباب يا من ترسب وأنت متدين، أنت لا تفهم الأمر بصورة صحيحة، يا شباب ادرسوا دروسكم ليس فقط لتنجح ولتحصل على الدرجات العليا، ولكن لتصبح متعلماً ويكون عقلك مثل سيدنا عليّ بن أبي طالب (ع) ومثل سيدنا سليمان (ع)، نريد عقولاً نظيفة؛ لأنّ هذا الدين لن ينتصر إلّا بأمرين: اجتماع الإيمان والعلم يجب أن يكتملا لتنتصر هذه الأُمّة. فلو أنّ أمة كلّها فشلت وتفرغت للعبادة فقط – ويا ليتها تفعل هذا – لا ينفع.

 

هذا هو الإسلام:

قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل/ 15)، بماذا فضلهما الله تعالى على كثير من عباده المؤمنين؟ وعلى ماذا يشكرون؟ قالوا: على العلم، أعطى لهما العلم لذا فهما يشكرانه عليه، تخيل أكثر نعمة يشكرونه عليها، الحمد لله أنّ الله فهَّمنا وعلَّمنا، اقرأوا يا إخواننا وتعلموا الكمبيوتر؛ لأنّه لغة العصر، هل يعقل أنّ هناك شاباً لا يعرف كيف يستخدم الكمبيوتر والإنترنت، وفتياتنا نفس الشيء؟ وقبل ذلك تعلم دينك، يجب أن تتعلم تجويد القرآن، أنا أريد أن يجمع شبابنا بين قضية العلم الديني والعلم الدنيوي؛ لأنّ هذا هو الذي يقود العصر الآن. يجب أن تجيد لغة غير لغتك العربية، هذا جزء من إسلامك وتتعود أن تتعبد إلى الله بدورس اللغة التي تأخذها وتعلم اللغة الإنجليزية وتعلم مهارة من المهارات، تعلم قيادة السيارة، نريد مسلماً مؤمناً يجيد المهارات من ناحية ويفهم علمه الذي سيتحرك به في الدنيا من ناحية أخرى.

ويا شباب، يجب أن يكون عندكم كتب في السيرة وكتب في سُنة النبيّ (ص) وكتب في الفقة تقرؤونها وتعملون بها.

 

فرق شاسع:

قال تعالى: (وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ...) (النمل/ 15-16)، فيما ورثه؟ في العلم والنبوة، قضية العلم ذكرنا ثلاث آيات تركز على العلم: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا) (النمل/ 16)، يقول النبيّ (ص): "نحن معشر الأنبياء لا نورث درهماً ولا متاعاً ولكن نورث هذا العلم"، ويقول أيضاً: "إنّ الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة في جحورها وحتى الحوت ليُصلُّون على معلم الناس الخير"[1]، تخيل النملة في جحرها، لو بدأت تتعلم ستتعلم التجويد ولو بدأت تتعلم ستتعلم كمبيوتر، تخيل النمل يصلي يعني: يقول: اللّهمّ اغفر له، اللّهمّ ارحمه، يدعو لك بالرحمة حتى الحوت في البحر يعرفك ويقول: فلان الفلاني الذي بيته في المكان الفلاني، يا رب، ارض عنه واغفر له، تخيل سمكة في المحيط الأطلنطي تعرفك، يقول النبيّ (ص): "وفضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"[2]، انظر فضل النبيّ (ص) على أقل إنسان منا كفضل المتعلم منا الذي عنده علم على العابد الذي يصلي طوال النهار، تخيلوا الذي يفهم دينه أحب إلى الله من الذي يتعبد فقط، الفرق هنا مثل الفرق بين النبيّ وأقل إنسان فينا، تعلموا يا إخواننا وأقرأوا.

قال تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل/ 16)، لم ينسب الخير لنفسه لم يقل: أنا عقلي نظيف، أنا أتعلم بسرعة، أنا ذكي، لا.. لا.. أنا كل الذي فيه من فضل الله – عزّ وجلّ – تعلم من الله هذا يحفظ لك النِعَم: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

 

جيش من الطير والجن والإنس:

قال تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل/ 17)، يوزعون يعني: مجتمعون مع بعض كلّهم في جيش واحد منضبط جدّاً، حاول أن تتخيل جيش الإسلام الذي فيه طير وجن وإنس كيف يكون؟ هكذا كان جيش الإسلام في يوم من الأيّام، تخيل قوة هذا الجيش وشكله وكلّه يتجمع لنصرة الإسلام تحت يد سليمان (ع).

 

أفصح نملة في الوجود!

قال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا) (النمل/ 18-19)، ما الموضوع: الموضوع أنّه حين قالت نملة: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل/ 18)، قيل: إنّ هذه أفصح نملة في الوجود، عندها فصاحة غير عادية؛ لأنّ الكلام الذي قالته جمع كلّ أدوات اللغة العربية، يا: نادت، أيها: نبهت، ادخلوا: أمرت، لا يحطمنك: نهت، سليمان: خصت، جنوده: عمّت، وهم لا يشعرون: اعتذرت، فجمعت في سطر واحد ستة أو سبعة أساليب من أساليب اللغة العربية.

 

كن إيجابياً:

النقطة الثانية: وهي أنّ في النملة أمراً جميلاً وهو الإيجابية، القرآن لم يقل: قالت قائدة النمل أو قائد النمل لكن نملة تحب قومها، يا من عندكم سلبية شديدة، يا من ترى من يدخن أمامك وأنت تتأذى وخجلان أن تقول له: لو سمحت أطفئ السيجارة لأنّها تؤذيني، يا من ترى الأخطاء والمعصية ليل نهار، يا من تسمع أناساً تسب الدين أنا لا أقول لك اذهب وتشاجر معهم لكن كلمهم بالحسنى. النملة كان عندها إيجابية ونحن ليس عندنا إيجابية، انظر لكلامها قالت نملة: يا أيها النمل تحركت وفعلت شيئاً، أسوأ إنسان في الوجود الإنسان السلبي، فعندما يمر أمامك موقف يجب أن تقول فيه كلمة وإن لم تقلها يجب أن تتعب نفسياً؛ لأنك كنت سلبياً؟ هذه ليست دعوة لثورة وليست دعوة لمشاجرة، إياك إياك أن تتشاجر مع أحد: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) (النحل/ 125)، يجب أن تكون إنساناً إيجابياً، إياك أن تكون إنساناً سلبياً، أعرف إنساناً ركب طائرة وأمر طبيعي أن تقدم الخمور فيها، فبكل أدب واحترام قال لهم: أريد أن أقدم شكوى للشركة وأترك رقم تليفوني ليتصلوا بي إنّ أرادوا، فكتب الشكوى بشكل راقٍ وحضاري من غير غضب وانفعال.

قال تعالى: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل/ 18)، يقول نبينا (ص): "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يوقع بكم عذابه ثمّ تدعونه فلا يستجيب لكم"[3]، إذن أحد أسباب عدم استجابة الدعوة أن تسكت عن المنكر، فكونوا بالله عليكم إيجابيين.

 

تريد أن يعرفك النمل؟

سيدنا سليمان (ع) وهو يسمع صوت النملة تبسم ضاحكاً من قولها، كيف عرفت النملة سيدنا سليمان؟ (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) (النمل/ 18)، نحن ذكرنا الحديث أنّ النمل في جحورها ليصلون على من يعلم الناس الخير، إذن الناس التي تهدي غيرها وتأمر بالمعروف يعرفهم النمل؛ فهي عرفته لأنّه يدعو إلى الله – عزّ وجلّ –، فأنت إذا دعوت إلى الله الكون بأسره يعرفك ويدعو لك.

 

لماذا ضحك سليمان؟

نقطة ثالثة جميلة وهي لماذا ضحك؟ إنّ الكلمة التي أعجبته وأوصلته للضحك هي: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل/ 18)، ما الذي يضحك فيها؟ لأنّ النملة عرفت بفطرتها أنّ الجيش الإسلامي لا يمكن أن يميت أمة من النمل، فجيش الإسلام نقي وطاهر فضحك لفرحته أنّ الكون كلّه عرف أنّ المسلمين أنقياء لا يمكن أن يقتلوا أحداً ظلماً فضحك لكلمة وهم لا يشعرون، فحتى النملة عرفت أنّ سليمان لا يمكن أن يؤذيهم، أرأيتم طبيعة شخصية سيدنا سليمان؟

 

معنى عظيم جدّاً:

يستوقفني معنى ثانٍ أيضاً وهو مدى نقاء الإسلام، إنّ هذا الإسلام دين لا يعتدي ظلماً على الناس، انظر لنقاء هذا الدين، الحقيقة بعدما قال: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا) (النمل/ 19)، قال: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) (النمل/ 19)، أوزعني أن أشكر نعمتك أي: اجعلني أجمع كلّ طاقتي وكلّ ما أملك في جسدي وفي عقلي وفي فهمي لكي أشكرك، فهل يوجد من عنده هذا الإحساس ويشكر الله على ذلك، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7)، وهذه قاعدة الشكر، من يريد أن تزيد نِعَم الله عليه فعليه أن يشكر الله تعالى، لو أنك أذكى الأذكياء فهذا فضل من الله وإياك أن تتباهى على الناس بعقلك، لو أعطاك الله موهبة في الكمبيوتر أو الرسم فعليك أن تستخدمها في طاعته، (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا) (سبأ/ 13)، كلما قرأت هذه الآية فإن جسمي يقشعر، (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) (الأحقاف/ 15)، انظر لتواضع سيدنا سليمان (ع): (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل/ 19)، تخيل هو يعرف لغة النمل والجن مسخر له ورغم ذلك يتمنى أن يدخله الله في الصالحين.

 

كن كالهدهد!

قال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) (النمل/ 20)، نظر فلم يجد الهدهد. وأين كان الهدهد وقتها؟ الهدهد يعرف ميعاده عند سيدنا سليمان (ع)، وهو جندي محترم ويحافظ على وقته وأثناء طيره وجد أناساً يسجدون للشمس من دون الله، وذلك في مكان بعيد جدّاً، فسيدنا سليمان (ع) كان في فلسطين وهؤلاء الناس في اليمن، أرأيتم الإيجابية، ذهب الهدهد ولم يحضر جيش سيدنا سليمان (ع)، وبدأ يشاهدهم فوجد أنّ التي تحكمهم ملكة، هناك شباب ليسوا مهتمين بهداية الناس، الهدهد كانت عنده غيرة على الإسلام لدرجة أنّه ظل ينظر إلى عرشها، والمكان الذي كانت تجلس فيه حتى أن حصل على أدق التفاصيل، فهو مهتم بقضيته، الموضوع ليس كلاماً فقط، ورجع الهدهد لسيدنا سليمان، الحقيقة أنا منبهر بنموذج هذا الهدهد، لماذا يروي لنا الله هذه القصة؟ يرويها ليقول لنا: تعلموا، تعلموا أن تعملوا لدينكم، لا تعيشوا لأنفسكم فقط، الموضوع موضوع قضية دين وأن يكون قضية حياتك، بل وحلم حياتك.

يتبع...

الهوامش:


[1]- ذكره ابن حجر في "فتح الباري" (12/ 8).

[2]- أخرجه الترمذي في (الحديث: 2685)، وأخرجه الدارمي في (الحديث: 1/ 77).

[3]- أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (الحديث: 5/ 391)، أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (الحديث: 10/ 93).

المصدر: كتاب قراءة جديدة ورؤية في قصص الأنبياء

تعليقات

  • 2021-04-25

    عهدالشريقي

    جميييييل الشرح

  • 2021-07-28

    حامد

    جزاك الله عنا خيرا

ارسال التعليق

Top