• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

البناء.. والتفاعل مع المعنى القرآني

أ. د. محمد أديب الصالح

البناء.. والتفاعل مع المعنى القرآني

كانت مبكرة هداية القرآن إلى أن من النفوس ما يكون هذا الكتاب الكريم شفاءً وهدىً ورحمةً لها – وهي نفوس المؤمنين – فضلاً عن أن يكون موعظة تصل من يتفاعل معها بسعادتي الدنيا ويوم الدين. وأن أولئك المعرضين الظالمي أنفسهم بالإصرار على أن تظل الصلة معدومة بين قلوبهم وبين آياته: لا يزيدهم إلا خساراً، وبعداً عن الطريق التي إن سلكوها استنارت عقولهم وقلوبهم وكانوا في الدنيا والآخرة من الفائزين.
ففي سورة "يونس" – وهي سورة مكية – نقرأ قول الله جلّ ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس/ 57).
إنّه كتاب فيه ما لكم وما عليكم – وهو القرآن – ودواء لما في الصدور من العقائد الفاسدة والشكوك والأوهام، وهدىً من الضلال المطبق بظلامه، ورحمة للمؤمنين به في دينهم ودنياهم وآخرتهم.
وتطالعنا سورة "الإسراء – وهي سورة مكية أيضاً – بقوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) (الإسراء/ 82).
من هنا: للبيان؛ فالقرآن شفاء من الضلالة، مضموماً إلى ذلك ما ثبت في الصحيح من جواز الرقية به، وهو رحمة للمؤمنين به ولا يزيد الكافرين الصادين إلا خساراً، لكفرهم عامدين الانصراف عن هدايته مع قيام الأدلة اليقينية على أنّه من عند الله.
ونقع على توكيد واضح لكونه هدىً وشفاءً للمؤمنين، أما الجاحدون: ففي آذانهم ثقل فلا يسمعونه، وهو عليهم عمى فلا يفهمونه، ذلكم قوله تعالى في سورة "فصلت": (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت/ 44).
وإذا كان الأمر كذلك في تقرير هذه الحقائق: فالمفترض أن يكون ذلك مما يحسب حسابه في منهج البناء للإنسان المسلم، للانتفاع بذلك السبب المتصل بين قلبه وعقله وبين القرآن، ليكون ذلك باعثاً على التفاعل بينه وبين معالم هذا الكتاب، الأمر الذي يعقب ما يعقب من الخير في كيان الفرد والمجتمع.
والعهد قريب بما سبق من الإشارة إلى ما للصلة، بين المسلم – ذكراً كان أو أنثى – وبين القرآن الكريم من أهمية بالغة في بناء شخصيته المتوازنة الجوانب، وتنمية طاقاته الفاعلة التي إذا لامستها معاني الفرقان الحكيم – وهو يَعنى بالعقل والقلب عنايته بالنفس والمشاعر والفطرة – حوّلت فاعليتها إلى عمل خيِّر مثمر، وسلوك مرضيّ مستقيم، ووضعتها في مكانها المنتج الذي يترجم قيم الإسلام وأحكام شريعته إلى وجود عملي يُصلح الإنسان في دنيا الواقع.
والحق أنّ الجيل الذي بناه القرآن وهو ينفعل بمعانيه بوعي وتبصُّر، وشهد تاريخ الإنسانية عطاؤه على ساحات التحويل، يوم كانت الإنسانية تئن تحت وطأة الجهل والجهالة والظلم، ومجانبة عقيدة التوحيد،... الحق أن هذا الجيل الفريد في التاريخ والذي كان ما قدَّمه من وافر العطاء في كل ميدان ضمن ظروف شديدة العسر، ليس أقلّها ما يثقل الكواهل من موروثات الجاهلية والاعتبارات القبلية، وأعراف التقليد غير المبصر للآباء والأجداد ولو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.. دليل عملي واضح ينتظمه سلك الأدلة التي لا تكاد تحصى، على أنّ القرآن وحيٌ من عند الله، ثمّ على أنّه – وهو كلام الحكيم الخبير – يزدان بتلك القدرة الفائقة على تفجير الطاقات وتسيير الإمكانات في قنواتها الطبيعية التي تصنع الحياة الكريمة، وتنشىء الواقع الذي ترمي إليه الرسالة الخاتمة كما بلّغها عن الله محمدٌ عليه الصلاة والسلام.
والمهم – أوّلاً وآخراً – أن يكون هنالك تفاعل صادق، وسلامة استقبال لهداية الكتاب العزيز لا تشوبها معكِّرات الوقر ولا العمى اللذين أشارت الكلمة الهادية إليهما، وعندها يكون – بفضل الله – الشفاء والرحمة والهدى والنور.
وهذا الذي نقول: يدعو إلى استذكار ما آذن به الهدي النبوي – على هذه الساحة – وتجديد الصلة بما يتجه إليه من إحكام البناء في شخصية المسلم، كيما يكون – بعون الله – على المستوى اللائق في مواجهة القرآن حين يتصل به تلاوة وتدبُّراً وعملاً.
من ذلك ما جاء عنه (ص) – كما سبق من حديث أبي هريرة – من تعليمه (ص) تالي القرآن كيف تكون استجابته التلقائية لمضمون بعض من الآيات الكريمات؛ فمن تلا سورة (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (التين/ 1)، وانتهى إلى قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين/ 8)، فعليه أن يقول: "وأنا على ذلك من الشاهدين" ومن تلا سورة القيامة وانتهى إلى قوله جلّ شأنه: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (القيامة/ 40)، فليقل: "بلى وعزة ربنا" وقل مثل ذلك في سورة المرسلات؛ فإذا انتهى التالي إلى قوله سبحانه: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (المرسلات/ 50)، كان مطلوباً منه أن يقول: "آمنا بالله".
وأخرج أبو داود في السنن عن ابن عباس (رض): "أنّ النبي (ص) كان إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) (الأعلى/ 1)، قال: "سبحانه ربي الأعلى" كما أخرج عن موسى بن عائشة – رحمه الله – قال: "كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، قال: "سبحانك فبلى" فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله (ص) وأخرج الإمام أبو جعفر الطبري عن قتادة: قوله تعالى: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، ذكر لنا أنّ رسول الله (ص) كان إذا قرأها قال: "سبحانك وبلى" كما أخرج ابن أبي حاتم أن ابن عباس (رض) كان إذا مرّ بهذه الآية: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، قال "سبحانك فبلى".
وروي عن أبي هريرة (رض) مرفوعاً: إذ قرأ: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) (المرسلات/ 1)، فقرأ: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (المرسلات/ 50)، فليقل: "آمنت بالله وبما أنزل" أخرجه ابن أبي حاتم.
هكذا يعمل النبي (ص) على أن يُحكم بناء اليقظة في عقل المسلم وقلبه، وكما تنمو في نفسه وفي حسِّه قابلية الانفعال بالقرآن والاستجابة لمضامين الآي ومدلولاتها.
والمسائل التي طرحها (ص) – وهي قد تبدو جزئية إلى حد ما – هي في الواقع – كما تدل مجموع الروايات – مسائل تتعلق بسلامة الاعتقاد، وفي الوقت نفسه ذات دلالة على الانفعال الصادق بالمعنى القرآني من حيث هو؛ الأمر الذي يجعل ذلك بريد التطبيق، والقدرة على ترجمة مدلولات القرآن ومضموناته فيما خاطب به المؤمنين – إلى واقع عملي ينطق به سلوك المؤمن ومنجزاته النافعة في كل ميدان من ميادين الحياة، وفق الثغر الذي أقامه الله عليه.
ذلك بأنّ القرآن ليس موعظة عابرة يتفكّه بها السامع، أو يضعها من تصوره موضع الترف الثقافي وكفى – في إطار من الاختيار – ولكنه خطاب الله لعباده بما شرع لهم سبحانه وما كان للمؤمن الذي طلب منه بمقتضى الإيمان صدق التفاعل مع الكتاب العزيز، أن يكون له الخيرة من أمره أمام الذي يأتيه عن الله وعن رسوله (ص)، والعدول عن ذلك معصية وضلال يقول الله جلّ ثناؤه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) (الأحزاب/ 36).
وإنها لقضية بالغة الأهمية من الواجب مراعاتها بعناية تامة عند إعداد الجيل المرشَّح للبناء، وهو ينتمي إلى أُمّة الرسالة الخاتمة، كيما يكون قادراً – بعون الله وتأييده – على حمل التبعات بذاتية وأصالة بدءاً من نفسه التي بين جنبيه، والله يتولى الصالحين.

المصدر: شفاء القرآن.. وجيل البناء

ارسال التعليق

Top