إنّ أزمة معظم متخصصي التاريخ في جامعاتنا إنّهم قرأوا كثيراً عن التاريخ الإسلامي بإنحرافاته، بمساوئه، بتجاربه الزاخرة بالسرّاء والضرّاء، بمساحاته التي تناوبت عليها، الأضواء والظلال، ببقعه السوداء والبيضاء.. ولكنهم لم يقرأوا شيئاً ذا بال عن الإسلام نفسه.. الإسلام كدين وحركة ومنهج وموقف ورؤية وتخطيط.. لم يقرأوا ما يوازي دراساتهم عن الواقع التاريخي، وبالتالي ما يمنحهم موقفاً متوازياً، ويمكنهم من أن يكونوا أكثر موضوعية في إصدار أحكامهم على الإسلام ومعطياته في شتى المجالات.
بالأحرى، إنّ أكاديميينا عرفوا الإسلام من خلال واقعه التاريخي، لا منطلقاته النظرية.. فكان رفضهم وتجريحهم ونقدهم المتحيِّز، وموقفهم السيِّئ المحزن، تجاه كل ما هو "إسلامي". ولم يكن الواقع التاريخي لعقيدة أو نظرية ما، في يوم من الأيام، هو المقياس الأوّل والأخير للحكم على قوّة تلك العقيدة أو النظرية وتماسكها أو ضعفها وتهافتها، إذ كثيراً ما يحدث وأن تنحرف الخطوط الفكرية عن مساراتها المرسومة لدى تنفيذها في عالم الواقع، وهو أمر يعود بأسبابه الحقيقية إلى الإنسان الفرد وإلى الجماعة البشرية، أي إلى مؤثرات النفس والمجتمع، بما تحمله من تعقيد وتشابك ليس بمقدور أحد أن ينفي ثقلها في ميدان التنفيذ التجريبي للمبادئ والمفاهيم والأفكار.. وتكمن قيمة الفكرة، وفق هذه المعادلة الصعبة، بمقدار ما تملكه من إمكانية التنفيذ بأكبر قدر ممكن من الأمانة والإستقامة.. وليس من شك في أنّ الإسلام يقف في المقدمة في هذا المضمار، ويظل، رغم الظروف التاريخية المعقدة في كثير من الأحيان، يملك قدرته على التعامل المتجانس مع الواقع. ومهما يكن من أمر، فإنّ هؤلاء المتخصصين لو اقتصروا في دراساتهم على حدود التجربة التاريخية في الإسلام، لما كان هناك خطأ يخشى من أحكامهم، رغم أنّهم، لسبب أو لآخر، يقفون طويلاً عند النقاط السوداء في تاريخنا، ويتشبّثون بمواقع الظلال العميقة، ويتمسّكون بأذيال كل واقعة أو حادثة فيها رائحة إدانة وتجريم لتاريخ الجماعات الإسلامية. لكن هؤلاء لا يقفون عند هذا الحد، بل يتجاوزونه إلى إصدار أحكامهم وتقييماتهم للإسلام نفسه، بإعتباره ديناً وحركة ومنهجاً وموقفاً ورؤية وتخطيطاً.. فهم من مناظيرهم المعتمة، المليئة بالدخان، يسعون – عبر عملية تعميم خاطئة من أساسها – للحكم على الإسلام، دون أن يكونوا قد قرأوا في معطياته الأساسية، أو في الأبحاث والدراسات العديدة، القديمة والحديثة، التي دارت حوله، شيئاً يذكر. ويقيناً أنّ بعض هؤلاء المتخصصين في التاريخ الإسلامي، من حملة الشهادات العليا، لم يكونوا قد قرأوا كتاب الله يوماً من ألفه إلى يائه، بل لم يكونوا قد قرأوا، وبشكل مباشر يقوم على التعمّق الذكي والنظرة الشمولية، شيئاً يذكر من سوره ومقاطعه وآياته.. والدليل هو أنّ أحدهم ما أورد يوماً آية أو مقطعاً، في القليل النادر، إلا تلاها محرَّفة، مبتورة، مليئة بالأخطاء.. وما يقال عن كتاب الله يمكن أن يقال عن سنّة رسوله (ص). أمّا الدراسات الحديثة، الجادّة، عن الإسلام في شتى مجاليه، فإنّهم لم يقرأوها أو يمرّوا عليها ألبتة، بل يستطيع المرء أن يجزم أنّهم ما سمعوا بمعظمها.. فكيف لنا أن نتوقّع من هؤلاء المؤرخين مبتوري الثقافة، أن يتخذوا موقفاً موضوعياً بنّاءً من الإسلام والفكر الإسلامي؟ وهل كان بمقدور أي متخصص في علوم الحياة يوماً – على سبيل المثال – أن يتحدّث بقدر كاف من الموضوعية عن تاريخ الأدب الأندلسي أو العوامل المعقدة المتشابكة لسقوط بغداد؟! المصدر: كتاب آفاق قرآنيةمقالات ذات صلة
ارسال التعليق