• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأسوة الحسنة لنا

فاطمة العارف

الأسوة الحسنة لنا

◄أنبياؤنا وأولياؤنا قدوة لنا في التحمل والكفاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ الرسالات، وترك الدنيا ونبذ زخرفها، والزهد فيها، والصبر على مصاعبها، وقد قال الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت/ 2)، وقد جرت عليهم المحن والابتلاءات العسيرة فكان ديدنهم الصبر على كلِّ ما يعتريهم، وكلّ نبي وولي لنا فيه أسوة في جهاده وكفاحه.

لقد بيّن الله سبحانه قصص أوليائه وأحبائه، وما جرى عليهم من الامتحانات العسيرة، والقصة في القرآن هي أسلوب من أساليب التربية الإلهية، فقد بدأ سبحانه بحديثه عن أبي البشر آدم، وعداوة إبليس له الذي اعترته الحمية فتكبر وخرج عن طاعة الله سبحانه، ثمّ بين توبته واستغفاره وتوبة الله عليه بعد تلك التجربة مع إبليس.

 

النبيّ نوح (ع):

قصّ علينا القرآن قصة نوح النبيّ الأسوة في كفاحه وصبره العظيم، فلقد لبث في قومه ما يقارب ألف سنة يدعوهم إلى الصراط المستقيم وما وَهَنَ وما استكان، وظل يقاوم تعنتهم وجفاءهم وسخريتهم ويدعو ربه. وكانت من جملة امتحاناته أن خرج ولده عن طاعته، وخالفته امرأته وساندت الكفار ضده.

صنعه السفينة بكفاح مر، وتعب مجهد، وقومه لا يقابلون هذا الإنجاز العظيم الذي يريد به إنقاذهم إلا بالسخرية والاستهزاء وهو يقابل هذا بالصبر والحجة والمجادلة بالتي هي أحسن. وكانت عاقبة الصبر أن أنجى الله نبيه ومن آمن في الفلك المشحون، وجعل ذريته هم الباقين.

 

النبيّ إبراهيم (ع):

وذكر لنا سبحانه قصة أبينا إبراهيم وابتلاءاته العسيرة من يوم ولادته ويتمه وفقده الناصر، وايذاء العم والأقرباء، وتحطيمه الأصنام في معابد القوم، فعل ذلك بجرأة منقطعة المثل وعلى رغم كلّ ما يتوقع من الأذى الذي سوف يناله من جراء هذا، وكانت النتيجة أن يلقى في وسط النار المعدّة لتحريقه عقوبة له على فعله ذلك، إلا أن توكله على ربه انجاه من كلِّ تلك المكائد العسيرة.

محاججة النمرود وسفسطته، وجوابه المنطقي الحكيم له.

وضعه زوجه وطفله الوحيد الذي رزقه على الكبر عند بيت الله الحرام حيث الوادي القاحل، وتركهم بلا راع غير الله وهو غير مبال لما سوف يقع لهم مادام الله سبحانه هو من أمره بذلك.

إطاعته لربه وتصديق رؤيته في تنفيذ ذبح ولده العزيز الذي جاءه بعد لهفة وشوق، وكانت عاقبة الصبر أن جعله الله إماماً. (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة/ 124).

 

النبيّ موسى (ع):

نتعلم من سيدنا موسى صبره على فراق الأهل وتحمل العيش مع فرعون الطاغية المتجبر، ثمّ تحمل مشاق الهجرة والغربة والجوع والعطش الذي لاقاه في هجرته إلى مدين فاراً بدينه من بطش فرعون وجنوده، قال الإمام عليّ (ع): "ولو شئت ثنيت بموسى (ع) حيث يقول رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير والله ما سأله إلا خبزاً يأكله لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه من شدة هزاله وتشذب لحمه" وعودته إلى مدينته وقد حمل الأمانة من ربه بعد أن كلمه الله في الوادي المقدس وأمره بتبليغ الرسالة مهما كانت الصعوبات، وكيف عاد إلى قوم هم يطلبون منه الثأر لأنّه قد قتل رجلاً منهم.

كفاحه ضد السحرة ومخافته من غلبتهم عليه وبذلك يكون قد فتح الباب إلى الضلال ودوله.

صبره على عنجهية بني إسرائيل وجهلهم المقيت وعنادهم العجيب.

شجاعته على عبور البحر الهائج وفرعون في أثره يطلب القوم ليقتلهم ويبيدهم. وخوف قومه وارتجافهم من فرعون وقولهم له: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء/ 61-62).

 

النبيّ عيسى (ع):

لنا أسوة في سيدنا عيسى (ع) الذي كلّم الناس في المهد ليرفع الخسيسة عن أُمه وظن السوء من قبل اليهود، ومن نطق الوحي على لسانه وقرأ سيرته فقال انّه مقيم الصلاة مؤتي الزكاة باراً بوالديه وليس جباراً ولا شقيا، ولقد كافح وناضل وجرت على يديه المعجزات الكبرى من إحياء الموتى وشفاء الأكمه والأبرص بإذن الله وتكليم الموتى له، فلم يطغه كلّ هذا الإعجاز وظل هو العبد الصالح المخلص لله، فكان كما يقول مولانا الإمام عليّ (ع): "فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، ويأكل الجشب، وكان ادامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانته ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه..".

 

نبيّ الإسلام محمّد (ص):

نتعلّم الصبر من سيدنا ونبينا محمّد خاتم النبيين (ص) الذي قال: "ما أؤذي نبي قط مثل ما أؤذيت"، فلقد لاقى من قومه وهو يدعوهم إلى النجاة أشد أنواع البلاءات العسيرة، فاتهموه بالجنون والسحر والكهانة، إلى غير ذلك من أنواع الأذى والبلاء الذي يعجز البيان عن وصفه، فخرج مهادراً إلى ربه بعد أن فقد كلّ محامٍ عنه وناصر وقد تآمروا على قتله، وخاض الحروب ضد المناوئين المعتدين، حتى نصره الله في مواطن كثيرة، ولقد أقسم الخالق به ولم يقسم بغيره من الأنبياء وذلك لأنّه كان الأسوة الحسنة في كلِّ أفعاله وأقواله.

قال الإمام عليّ (ع):

"ولقد كان في رسول الله كاف لك في الأسوة ودليل ذلك على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيرها، أكنافها، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها".

 

الإمام عليّ (ع):

الأسوة لنا في عليّ الذي صبر على محنة الإسلام ومشاركته للنبيّ في كلِّ همومه وغزواته، وتحمله زهده في متاع الدنيا حتى بعد أن أصبح خليفة المسلمين، والتاريخ صوّر لنا ذلك بمواقفه المذهلة في عدله واستقامته وورعه وتحمله، وكثرة ما خرج عليه من أصحاب المطامع يريدون الدنيا وهو يريد الآخرة، وظل هو درع الإسلام الحصين يصد كيد الكائدين، فلقد صبر على من تجاوز عليه وحاربه والب عليه وكانت العاقبة أن أعطاه الله ما أمّل فنال ما وعده الله بانبعاث أشقاها فنال الشهادة وهو ساجد في المحراب ليلة القدر.

 

سيدتنا فاطمة (عليها السلام):

ولنا في سيدة نساء العالمين على لسان أبيها خاتم النبيين أسوة حسنة في تحملها الأذى الذي صب عليها وعلى أبيها وزوجها من جهل قريش وعنادهم، وتتبعها له في كلِّ مكان، فكانت في بدء الدعوة تتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، تدافع عنه وتحميه، وتراقب من يريد به الأذى لتنبه على الخطر، فكان بحقِّ أن قال عنها انّ "قاطمة هي أم أبيها"، وما أعظمها من مقولة يقولها نبيّ البشر عن امرأة، وهو ليس ممن يتكلمون بالعواطف، ينعتها أُم خاتم النبيين.

تحملها شظف العيش وشدته ومواساتها لبنات المدينة في فقرهن وعوزهنّ، وقول والدها لها "يا فاطمة تحملي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة" يقول عليّ (ع) وهو يصف للنبيّ حالها: "يا رسول الله انّ فاطمة قد جرت بالرحا حتى اثرت الرحا في يديها، واستقت بالقربة حتى اثرت القربة بنحرها، وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دنست ملابسها".

وقد تزوجت عليّ (ع) سيد الأولياء وكان جهازها وسادة من ليف وحصير من سعف النخيل، وقربة ومنخل ومنشفة وقدح ورحا إلى غير ذلك من المتاع الزهيد.

ولنا في أئمتنا وولاتنا وحماة ديننا كلّ حسب دوره أسوة في العمل الصالح، فهذا الإمام الحسن (ع) الذي ضحّى بنفسه وتنازل عن حقه حفظا لبيضة الإسلام، وتحمل لوم الصديق وشماتة العدو.

والحديث عن سيد الأحرار مولانا الحسين بن عليّ (ع) طويل فقد سطر أروع ملحمة بطولية واجه بها الموت ارباً هو وأهل بيته وخُلَص أصحابه، وهو يقول: "لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برما"، فكان موقفه موقف الحر الأبي الذي صنعته عين النبيّ وعليّ وفاطمة.

 

سيدتنا زينب (عليها السلام):

نتعلّم الصبر الذي لا يسع البيان وصفه، من أسوة النساء وبقية الآباء وبطلة كربلاء تلك التي وقفت في يوم عاشوراء تمد يداً غير مرتعشة إلى جثمان قد مزقته السيوف المعادية الدنيئة وهو جسد حبيب على قلب الرسول تمتد تلك اليد وتقول: "اللّهمّ تقبل منّا هذا القربان"، ولو لم يكن لهذه اللبوة الهاشمية غير هذا الموقف في الطف لكفاها فخراً وعزاً ورفعة. ومن ثمّ قادت أعظم ثورة في التاريخ وجعلت من راية النصر المزعومة بيد العدو تتهاوى في مزابل التاريخ.

 

المصدر: كتاب مجلة الرياحين/ العدد 70 لسنة 1433هـ

ارسال التعليق

Top