• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسلام قاعدتنا الفكرية

السيد محمَّد باقر الصدر

الإسلام قاعدتنا الفكرية

إنّ للحضارة الغربية بأفكارها ومفاهيمها وكيانها الثقافي عامة قاعدة فكرية تستند إليها وهي (الديمقراطية) أو بالأحرى الحريات الرئيسية في المجالات الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية. فإنّ هذه الحريات بمفهومها الحضاري الغربي هو حجر الزاوية في ثقافة الغرب والإطار الفكري الذي تدور في نطاقه الأفكار والمفاهيم الغربية عن الإنسان والحياة والكون والمجتمع، وحتى أنّه لعب دوراً رئيسياً في تحديد الاتجاه العام لمفكري الغرب فيما يسمونه بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، فلم تستطيع البحوث الإنسانية لهؤلاء المفكرين أن تتجرد عن تأثير الرسالة التي يعتنقها الباحثون كقاعدة عامة.

وليس تأثر قوانين الاقتصاد السياسي بالحرية الاقتصادية وتأثر الاتجاهات السيكولوجية لبعض مدارس علم النفس التحليلي التي يتزعمها "فرويد" وغيره من اللاشعورين بالحرية الشخصية إلّا من الأمثلة الواضحة لما تؤكد عليه من الصلة الوثيقة بين أفكار الحضارة الغربية وبين القاعدة الفكرية التي تستند إليها ورسالتها الاجتماعية التي تدعو وتبشر بها.

وكذلك الأمر تماماً فيما يتصل بالحضارة الماركسية التي تنافس الحضارة الرأسمالية في كلّ الميادين، فإنّ رسالتها الفكرية التي تدعو إلى نظرة مادية معينة تجاه الكون والحياة والمجتمع والتاريخ، هي القطب المركزي الذي ينعكس إلى حد – قصير أو طويل – في كلّ المفاهيم والأفكار الحضارية التي تتبناها الماركسية ويؤمن بها مفكروها.

ونحن بطبيعة الحال لا نعني من احتلال الرسالة مركز القاعدة من التفكير في الحضارة الأوروبية، أنّ الرسالة استطاعت أن تمون مباشرة بكلِّ ما يحتاجه من مفاهيم ومعارف في كلِّ الحقول والميادين، إلى الدرجة التي تصبح كلّ معرفة منبثقة عن الرسالة، ومتفرعة عن القاعدة الرئيسية المفترضة، بل الواقع أنّ وضع الرسالة في الموضع الرئيسي من التفكير الحضاري، إنما يعني محاولة التوفيق بين جوهر الرسالة وروحها وبين الأفكار الحضارية المتبناة. إذ من المنطقي والطبيعي أنّه ما دامت الرسالة تخضع لمقاييس تلك الرسالة وتتجنب مناقضتها سواء أكانت مستنبطة منها أم لا.

هذا هو الواقع الذي يتبين بكلّ وضوح لدى دراسة كلّ من الكيانين الحضاريين المتصارعين اليوم على مسرح التفكير الأوروبي.

وأما موقفنا من هذا الواقع فهو:

أوّلاً: أن نكون على حظ عظيم من الدقة والوعي حينما نبحث عن الأفكار الأوروبية، لأجل أن نستطيع تعريتها عن إطارها الرسالي، والتعرف على مدى صلتها بهذا الإطار وتأثرها به.

وهذا هو الموقف الوسط الذي يجب أن يقفه المسلم الواعي من كلِّ تفكير أوروبي يتصل – من قريب أو بعيد – بالحقول التي تعالجها الرسالة وتمتد إليها القاعدة الفكرية، فليس من الصحيح إغفال هذه الناحية الخطيرة – ناحية الصلة بين الفكرة ودراسة الفكرة – بغض النظر عما قد يكون لها من إطار خاص أو قد يكون فيها من استيحاءات مستمدة من القاعدة الفكرية، كما يفعل كثير من الباحثين المسلمين اليوم مع أفكار كثير من علماء الاجتماع والنفس والتاريخ الأوربيين. فإنّ أوّل نقطة يجب التأكد منها قبل كلّ شيء هي البحث عن مدى صلة الفكرة المبحوث عنها بالقاعدة التي ثبت لدينا خطأها، وعلى ضوء هذه الصلة يجب أن تتركز نظرتنا إلى الفكرة والحكم لها أو عليها بما نستخلصه من البحث والدراسة.

كما أنّه ليس من الصحيح أيضاً ما يتجه إليه بعض الدعاة المسلمين من الحكم على كلِّ تفكير أوروبي يتصل بالحياة الإنسانية بأنّه خطأ لأنّه مستنبط من القاعدة، ومادامت القاعدة خطأ فما يستنبط منها خطأ أيضاً. فإنّ استنباط الفكرة من القاعدة – في المجالات النظرية – لا يعني أنّها مستنتجة منها، إستنتاجاً، ومتوقفة في مصيرها على القاعدة نفسها، وإنما يعني أنّ الفكرة صيغت بالشكل الذي لا يتناقض مع تلك القاعدة، سواء أكانت مستمدة منها بصورة مباشرة أم لا، والقاعدة وإن كانت خطأ ولكن ليس من الضروري في كلِّ فكرة لا تتناقض مع الخطأ أن تكون خطأ.

وثانياً: من واجب المسلمين الواعين أن يجعلوا من الإسلام قاعدة فكرية وإطاراً عاماً لكلِّ ما يتبنون من أفكار حضارية ومفاهيم عن الكون والحياة والإنسان والمجتمع، ولا شك أنّ العقيدة الدينية نفسها تعني هذا الشيء وتفرضه موجوداً لدى المتدين، غير أنّ العقيدة الدينية لما كانت تعيش اليوم في نفوس كثير من الناس مجردة عن وعي حقيقي يسندها، نجد أنّ جمهرة من المسلمين لا يعون المكان الطبيعي الذي يجب أن تحتله رسالتنا الفكرية الأصيلة من التفكير العام.

وليس هذا الفرق الذي نجده بين رسالتنا الإسلامية والرسالات الأوروبية في مواضعها من التفكير العام ناشئاً عن طبيعة تلك الرسالة وإنما هو نتيجة الاختلاف فيما يرافق كلّ رسالة في ذهنية أصحابها من درجة الوعي والشعور.

ولاشكّ أنّ هذا الإحساس الأليم بحاجة إلى الرسالة البناءة في كلِّ الميادين الفكرية والعملية، هذا الإحساس الذي يسيطر على الأُمّة، وأنّ هذه اليقظة الخيرة التي بدأت تباشيرها تبدو هنا وهناك، وأنّ هذا الموج المعنوي المتزايد الذي بدأ يفجَّر تياراً من الشعور الإسلامي، لا نشك في أنّ هذا كلّه يؤكد أنّ رسالتنا المقدسة إنما بدأت تسير في طريقها إلى مركزها الطبيعي، إلى مركز القاعدة الفكرية من الذهنية الإسلامية، وذلك حينما يستأنف المسلمون إيمانهم بالرسالة إيمان وعي لا إيمان تقليد، وإخلاصهم لها إخلاصاً لا إخلاصاً سطحياً يعتمد على الوراثة والبيئة فحسب.

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت/ 53).

 

المصدر: كتاب رسالتنا

ارسال التعليق

Top