السيِّد حسين نصر/ ترجمة: داخل الحمداني
◄الأُسرة لبنةُ المجتمع الإسلامي وقد حلّت بعد نزول القرآن محلّ نظام القبيلة السائد بين العرب آنذاك.. ومن الإصلاحات الاجتماعية التي قام بها الإسلام، تقوية العلاقات الأُسرية والروابط الزوجية، والمجتمع الإسلامي، ككثير من المجتمعات التقليدية، لا ينظر إلى الأسرة على أنّها تتكوّن من الأب والأُم والأولاد فقط، بل هي أوسع من ذلك، إذ تشمل الجَدَّ والجَدَّة والأعمام والأخوال والخالات والعمّات وأولادهم وأقارب الزوجة.
وقد لعبت الأسرةُ الكبيرة دوراً كبيراً في تربية الأطفال، والحفاظ على جيل الشباب من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، ولعبت دوراً مهمّاً في انتقال الدين والأعراف والسُّنن وأسرار التجارة، إنّ دور الأسرة مازال واضحاً في المجتمع الإسلامي إلى اليوم، وحتى عندما جاءت الحداثة (العصرنة) تحطّم الكثير من المؤسسات والقطاعات الإسلامية، ما عدا نظام الأسرة، فقد بقي محافظاً على رونقه وصبغته الدينية.
أمّا في الغرب، فقد استُبدلَت الأسرة الكبيرة بالأسرة الصغيرة، ثمّ على أثر التحوّلات الاجتماعية تحوّلت الأسرة إلى أصغر من ذلك (أسرة ذات الولد الواحد)، إلى أن وقعت الأسرة بمعناها الديني الدقيق تحت ضغوط شديدة أدّت إلى إضعافها، وأغلب المسلمين ينظرون إلى هذا التغيير في شكل الحياة، من الآداب الجنسية، ودور الرجل والمرأة في المجتمع الغربي، على أنّها تجارب ناقصة لم تحسم نتائجها بعد، لذلك وقع هذا الموضوع محلاً للنزاع بين المَحافل الغربية الإصلاحية والعالم الإسلامي، في حين أنّ اليهود والمسيحيين المحافظين في الغرب يعارضون تلك الرسوم والآداب الجديدة بنفس الدرجة التي يعارضها فيها المسلمون.
ولا تختلف كثيراً رؤية عموم المسلمين، بالنسبة للتجارب الاجتماعية الجديدة في الزواج والأسرة، عن رؤية اليهود والمسيحيين التقليديين، وإنّني أعرف كثيراً من الأُسر اليهودية والبروتستانتية والكاثوليكية في أمريكا، التي تشعر بأنّ جيرانها المسلمين أقرب إليها في إدراكهم في معنى الزواج وأهميّة الأسرة من أصدقاء أفرادها أيام الشباب.
وفي ما يخصّ مسألة الزواج، لابدّ من القول إنّ فهمه ومعرفة منزلته في الإسلام لا تتيسران إلّا في إطار فهم أهميّة الجنس لدى المسلمين.
وتعتبر الميول الجنسية ذنباً في الإلهيات التقليدية المسيحية إلّا من باب حفظ النوع، ولهذا فإنّ هذا العمل بحاجة إلى تطهير في سياق المسيحية، وعملية تطهيره تتم عن طريق الزواج.. أمّا الدينان الإسلامي واليهودي، فينظران إلى الجنس على أنّه رباط مقدّس ومبارك، ولا يحتاج إلى مراسمَ دينية كما في المسيحية لتجعل منه شيئاً مقدساً، بالإضافة إلى أنّ الزواج في الإسلام هو عقد يُبرم على أساس الشريعة لتنظيم العلاقات الجنسية، ووضعها في إطار قانوني لتحفظ حقوق كلا الطرفين.
ومع ذلك، لا يقبل كلٌّ من الأديان الثلاثة (المسيحية واليهودية والإسلام) بالعلاقات الجنسية الخارجة عن الرباط الزوجي المقدس، ويحرمونها ويعدّونها معصية لله عزّوجلّ.
إنّ شريعة الإسلام تجوِّز الطلاق قانونياً، وتمقتُه على المستوى الأخلاقي والاجتماعي، جاء في الحديث الشريف: "ما من شيءٍ ممّا أحلّه الله عزّوجلّ أبغضُ إليه من الطلاق". ولذلك مهما بدا أنّ الرجل يستطيع أن يطلّق زوجته بسهولة، وأنّ الزوجة تستطيع ذلك، في ظروف خاصّة - كترك الزوج لزوجته والتخلي عنها -، لكنّ الطلاق من المسائل التي نادراً ما تقع في المجتمع الإسلامي التقليدي، وخصوصاً إذا ما قِسنا ذلك بمعدلات الطلاق في أوروبا وأمريكا اليوم.
إنّ الانطباع الرائج لدى الغرب بالنسبة لحقوق المرأة المسلمة على مستوى الأسرة والطلاق ليس صحيحاً، لأنّه يُغفل الكثير من العوامل الاجتماعية والأخلاقية الدخيلة في بلورة الكثير من الأوضاع الأسرية، وإن كان هناك مع الأسف حالاتُ تعدِّ وتجاوزٍ على المرأة في هذا السياق.
واليوم وفي ظل شيوع المسائل العرفية في حقوق الأسرة والطلاق، يشهد العالم الإسلامي الندوات والجلسات التي تصبّ في الحفاظ على حقوق المرأة التي تلقى معاملةً سيِّئة من زوجها ويرفض طلاقها.. وفي الدول الإسلامية، شُكِّلت محاكمُ خاصّة باسم (محاكم الأسرة) تبنّت السعي لبسط العدل على أساس روح القانون والقرآن، وليس على أساس العُرف الرائج.
ولا يخفى أنّ المجتمع الإسلامي، وكأيّ مجتمع آخر، فيه سوء معاملة بالنسبة للنِّساء، لكنّ الإسلام يؤكِّد على أهميّة الأسرة وقداسة العلاقة الزوجية التي جعلها على عاتق الزوج والزوجة، وإن تنصَّل بعض المسلمين من تلك المسؤولية.
أمّا ما يرتبط بنفس الزواج، فلابدّ من القول بأنّ الزواج في الدينين الإسلامي والمسيحي قائم على اتّجاهين معنويين مختلفين، فالمسيحية لا تجوِّز تعدُّد الزوجات، لكنّ الإسلام يجوِّز ذلك.
هذا الاختلاف بين النظريتين لا يوجد مَن وضّحه وبيّنه بصورة دقيقة أفضل من (أتيتوس بورك هارت) واحد من أدقّ المحققين في التراث الإسلامي في الغرب، إذ يقول: "ينظر الأوروبيون إلى ظاهرة تعدُّد الزوجات في الإسلام على أنّها مسوِّغ للفساد الجنسي، وينسَون أنّ هذا (أي الفساد) لا يمكن تَلافيه إلّا بنبذ التفرُّد والزهد في الحياة الزوجية، لكنّ النقطة الأساس هنا هي أنّ الزواج في الإسلام مبنيٌّ على نموذج معنوي يختلف عن النموذج المسيحي.. إنّ الزواج الواحد في الدين المسيحي هو انعكساً عن اتحاد واتصال الكنيسة - الروح مع المسيح - وهذا الاتحاد ينطلق من العشق الشخصي غير القابل للانتقال إلى الغير.. من جهة أخرى، إنّ تعدُّد الزوجات في الإسلام مأخوذ من الارتباط الحقيقي الواحد لله مع مخلوقاته المتعدّدة، والرجل، وهو ربُّ الأسرة يمثل مظهر الحقّ، ودوره يمثِّل الفاعل (الروح) في حال أنّ الزوجة في حكم المنفعل (القابل)، أي النفس".
من هنا، فإنّ كلّ مسلم يستطيع أن يتزوّج بامرأة مسيحية أو يهودية.. أمّا المرأة المسلمة، فلا تستطيع الزواج إلّا من مسلم. إنّ هذين النموذجين المعنويين في الزواج على مستوى المسيحية والإسلام ليسا شيئاً خارجاً عن الزواج في عقيدة الطرفين، بل هو جزء ذاتي منهما.
إنّ الحالة الرمزية التي عرضنا لها ليس بالضرورة أن تكون واضحة لدى الجميع، لكنها تُشكِّل قسماً من التراث الفكري لهم. إنّ الأصول والنماذج المعنوية التي سقناها هنا لا تعني بوجهٍ ما، الحطّ من العلاقة بين الرجل والمرأة إلى مستوى أنّها علاقةٌ بين فاعل ومنفعل، كما هو موجود في عُرف الشرق الأقصى أنّ كلاً من الذكر والأنثى مستفيدان من الـ (يين) والـ (يانك) بنسب مختلفة. في الرؤية الإسلامية أيضاً جنس الذكر مع أصل الفاعلية يختلف عن جنس المرأة مع أصل المفعولية.
إذا اعتبر المسيحيون أنّ تعدُّد الزوجات بالنسبة للنبيّ (ص) ساهم في إضعاف منزلته المعنوية، فإنّ المسلمين يعتبرون ذلك مصدراً للتطهُّر والشرف والقداسة. من جهة أخرى، إنّنا إذا اعتبرنا أنّ الزواج علاقة جنسية حقيقتها الاتصال بين الرجل والمرأة، وأنّ كلّ علاقة جنسية يجب أن تكون في إطار الزواج، فإنّ الفساد الموجود في الإسلام القائل بتعدّد الزوجات أقلُّ بكثير منه في الغرب القائل بوحدة الزوجة حتى قبل الإباحة الجنسية في ستينات القرن العشرين.
لقد سعى الغرب منذ قديم الزمان إلى تشويه صورة المسلمين، وحاولوا وصفهم على أنّهم أُناس يحبّون النِّساء ويميلون إلى الجنس، بينما صوّروا المسيحيين بأنّهم يدافعون عن الطهارة، ويخالفون الإيغال في العلاقات الجنسية غير المشروعة، لكنّ الواقع الاجتماعي يشهد بخلاف ذلك. لا شكّ في أنّ تعدُّد الزوجات موجود في العالم الإسلامي، غير أنّ الواقع هو أنّ كثيرين من المسلمين يقتصرون على زوجة واحدة.
بالإضافة إلى أنّ العلاقاتِ الجنسية غير المشروعة نادراً ما تقع في المجتمع التقليدي الإسلامي، بينما العلاقات الجنسية غير المشروعة تكاد تعمّ المجتمع الغربي في الوقت الذي خالفوا فيه تعدُّد الزوجات.
إنّنا لا نستطيع القول إنّ العلاقاتِ الجنسية غير المشروعة غير موجودة في المجتمع الإسلامي، لكنّها نادرة وقليلة، ولا يوجد أولاد غير شرعيين في الخارج.
إنّ أنواع الزواج كلّها حتى المؤقت منها يعتبر فيها الأولاد شرعيين، وعلى الأب تقع مسؤولية الدفاع عنهم وحمايتهم.
قال رسول الله (ص): "مَن تزوّج أحرز نصف دينه".
والزواج في نظر المسلمين طريق مبارك ومقدس لمتابعة سُنّة النبيّ (ص).. ولو أنّ الشريعة لم تجعله أمراً لازماً، لكن بالنظر لأهميّة هذا الأمر الديني، فإنّ كلّ واحد من المسلمين حتى في المدن الكبيرة يسعى إلى الزواج.
وفي العالم الإسلامي تُمارَس ضغوطٌ كبيرة على الشباب لحثِّهم على الزواج هروباً ووقاية من الوقوع في المعصية، ولهذا من الصعوبة أن تجد رجلاً أعزبَ أو امرأة في المجتمع الإسلامي، إلّا في بعض الأفراد المنتشرين في العالم الإسلامي هنا وهناك.
وفي المناطق الريفية والقرى، عادةً ما، تتزوّج المرأة المتوفّى عنها زوجها (الأرملة) بزوج آخر، وكذلك الرجل الذي فَقَدَ زوجته فإنّه يقع، عادةً، تحت ضغوط الآخرين للزواج، وحتى أولئك العزّاب، ذكوراً كانوا أو إناثاً، عادة ما يعيشون إلى جانب أُسَرهم ويحسبون من أفراد الأسرة الكبيرة.►
المصدر: كتاب قلب الإسلام قيم خالدة من أجل الإنسانية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق