إنّ إدراك الأولويات لم يعد يمكنّا من خلال مدخل معرفي واحد، أو تخصص واحد، بل لابد من مقاربته من مداخل عديدة وتخصصات مختلفة، بل والنظر إليه على أنّه علم له أصوله وقواعده وجوانبه العديدة، ومن الغبن لهذا العلم أن يحصر في دائرة علم ما أو يحشر في ثنايا مباحث حتى لو كان ذلك العلم هو (الفقه).
وهذا العلم (علم الأولويات) يُفترض أن يتعامل مع القضايا المختلفة على مستويات عديدة، فيتعامل به على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأسر والجماعات والشعوب والأمم، فإذا استطعنا أن ندخل في ثقافة الفرد فن (إدراك الأولويات) بالنسبة له ومنهجيّة تحديدها فذلك قد يعود على الفرد بانتظام حياته ما دام حيّا، وتعامل هذا العلم مع المستوى الفردي لا يجعل منه أمراً هيناً يمكن لأي أحد ممارسته، فإنّ من الصعب تحديد أولويات الفرد من غير ملاحظة مجموعة كبيرة من القضايا والشؤون المختلفة تتناول بالتحليل والتعليل صحة الفرد وعمره التقديري وماله وأسرته وسكنه ونمط معيشته وزمانه ومكانه وبيئته وسائر شؤونه وشجونه المتعلقة بماضيه وبحاضره وبمستقبله، ثم يوازن بعد ذلك بين طموحاته وآماله وتوقعاته وجوانب الضغط عليه أو التيسير له لكي يستطاع - بعد ذلك - رسم خارطة لأولوياته فيقدم ما حقه التقديم من شؤونه ويؤخر ما حقه التأخير، ذلك لأنّ طموحات الإنسان وتطلّعاته تتجاوز في الغالب أوقاته ووسائله وأدواته، كما تتجاوز قدراته الآنيّة سواء في اطار عدم توافر الشروط أو في دائرة وجود الموانع.
فإذا تجاوزنا الفرد إلى النظر في تحديد (أولويات أسرة) باعتبارها الوحدة الصغرى في بناء المجتمع فإنّ المتطلبات التي نحتاج إلى ملاحظتها لتحديد أولويات الأسرة ستكون أكبر بكثير من متطلبات تحديد أولويات الفرد، وتظل الدائرة تتسع من وحدة لأخرى فتكون بالنسبة للمؤسسة أوسع منها بالنسبة لمؤسسة أصغر حتى نأتي إلى دائرة أولويات الأمة بوصفها أمة. وهنا لابد من تضافر الجهود كلها واستخدام مبدأ الشورى بأوسع معانيه، والقيام بالدراسات المكثّفة لسائر الجوانب الفاعلة والمؤثرة في حياة الأمة: السياسية منها والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، واستعمال سائر العلوم الإنسانية الاجتماعية أو رصيد الخبرات والتجارب الإنسانية للوصول إلى تحديد مناسب لأولويات الأمة في مرحلة زمنية محددة، ولذلك فإنّ من التبسيط لهذا الأمر اختزاله وحصره في الدائرة الفقهية الضيّقة، أو أية دائرة أحادية البعد.
آثار تجاوز علم الأولويات
إنّنا حين نحاول رصد الآثار السلبية الخطيرة والانحرافات والأمراض الكثيرة التي أصيبت أمتنا بها نتيجة عدم أخذها بمداخل (علم الاولويات) وعدم عنايتها به نستطيع أن نرصد من السلبيات على عجل ما يلي:
أولا: الاستغراق بالجزئيات والتفاصيل والانشغال عن الكليات والعجز عن رد الجزئيات إلى الكليات والفروع إلى الاصول وفهم العلاقة الدقيقة بينها.
ثانياً: التشبّث بالتقليد والتبعية واعتبارها مصدر أمن يحمي من المغامرة لاكتشاف المجهول بالإبداع أو الاجتهاد، ونسبة كثير من الإيجابيات المصطنعة لهذه الحالة حالة التقليد المرضيّة، وقديماً قيل:
(يرى الجبناء أنّ الجبن حزم وتلك خديعة الطبع السقيم)
ثالثاً: تقديم النوافل على الفرائض، أو التحسينيات على الحاجيات، أو الحاجيات على الضروريات في مختلف جوانب الحياة لافتقاد المنهجية والتفكير المنهجي العلمي الرصين المنضبط.
رابعاً: العزوف عن الاخذ بالأسباب، والميل إلى تجاوزها لأدنى سبب توكلاً أو تواكلاً أو اعتماداً على مُفترض أو متوهم مع تجاهل أنّ الارتباط بين الأسباب والمسببات ارتباط سُنن (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الأحزاب/62).
خامساً: عدم التفريق بين الحق والرجال والركون إلى معرفة الحق بالرجال بدلاً من معرفة الرجال باتباع الحق وهذا قد أدى إلى نوع من (الصنمية) والعمل على اضفاء البعد الشخصي على الفكرة والمبدأ، فكثيراً ما نتعلّق بمبدأ تافه لمجرد محبتنا للقائل به، أو نرفض مبدأ قويماً لمجرد رفضنا للمنادي به أو متبنّيه.
سادساً: انحراف في خط التفكير نجم عن انحراف في منهجيته وترتّب عليه اضطراب في المنطق وانحراف في أساليب البحث سواء في تراثنا أو تراث غيرنا وتجاهل لمناهج الحوار والاستدلال والاستنباط.
سابعاً: خلط شديد بين ما هو ثابت وما هو متغيّر، فكثير من المتغيرات حولها طول الأمد والذيوع وكثرة التعاطي والمتعاطين إلى ثوابت، وكثير من الثوابت حُوّلت إلى متغيرات بدوافع وأسباب مماثلة.
وكثيراً ما أدى ذلك إلى خلط في قضايا المقبول والمردود، والبدعة والسنة، وربما الحلال والحرام، والفردي والجماعي.
ثامناً: الرغبة عن التأصيل الدقيق، والتمحيص العميق، والميل إلى الارتجال بدعاوى مختلفة، منها البحث عن البساطة، أو الرغبة في تجاوز التكلف.
تاسعاً: التسوية بين التخطيط الدقيق للأمور وبين الارتجال، مرة بحجة التساوي في النتائج، أو تقارب تلك النتائج.
عاشراً: من أصيب بكل ما تقدم ينزع دائماً إلى تبرئة الذات واتهام الآخرين، للعجز عن مراقبة النفس ومحاسبتها، فإن هول هذه الاصابات يجعل مجرد استحضارها أمراً صعباً على النفس فتسارع النفس إلى تزكية ذاتها، والقاء التهمة على الأخر، لكنها في الوقت نفسه تعاقب نفسها بفقدان الثقة بالنفس إضافة إلى فقدانها بالآخرين.
إحدى عشر: حين لا تستحضر الأولويات ينشغل الناس بالشعارات والتهاويل ويتجاوزون المضامين، ويستعجلون النتائج، ويضطربون بين اليأس والقنوط والطمع المبالغ فيه والرجاء القائم على غير أساس والإحباط أو الغرور.
اثنتا عشر: تجاوز الأولويات يؤدي إلى الفصل بين العلم والعمل، والفكر والنظر والعمل كذلك، بل ربما يؤدي الجهل بالأولويات إلى أن ينشب صراع بين أهل العلم والعمل أو بين أهل الفكر والعمل لعدم تحديد العلاقات بشكل مناسب.
ثلاثة عشر: إدراك الأولويات يعتبر درعاً وحماية من الكسل أو الفتور النفسي أو العقلي، وتجاوز الأولويات مدعاة إلى الوقوع في ذلك وتهيئة أسبابه.
أربعة عشر: تجاوز علم الأولويات يؤدي إلى هيمنة كثير من الأوهام على العقل الإنساني، ومنها أوهام التعارض بين النقل والعقل وبين النقل والعلم فيضطرب الإنسان اضطراباً شديداً، فمرّة يندفع بدافع الخوف لحصر المعرفة في الوحي، وأخرى يندفع بمثل ذلك لحصر المعرفة بالعلم أو العقل، وكل ذلك إنما ينجم عن فقدان الأولويات، وتداخل المراتب، والعجز عن التفكير الكلي وتنظيم الأمور داخله.
خمسة عشر: حين يتراجع علم الأولويات في أمة تسود حياتها الاتجاهات الشكلية والرسوم وعمليات الفصام بين النظرية والتطبيق، وقد تعمد إلى تعاطي ما يُعرف بـ (الحيل والمخارج) اغتراراً منها بالصور والأشكال.
ستة عشر: حين يضطرب علم الأولويات في أمة يسود حياتها التنافض أفراداً وجماعات، فقد تجد الإنسان يحرص الحرص كله على أداء الصلاة جماعة ولكنه لا يتردد في المشي بين الناس بالنميمة أو اغتياب الناس وتفريق الجماعات وربما التجسس على هذا وتتبع عورة ذاك أو غير ذلك من المفاسد.
سبعة عشر: تجاوز الأولويات قد يؤدي إلى ممارسات خاطئة كثيرة تنطلق من اضطراب المفاهيم، فقد يختلط على الإنسان مفهوم (التهور) بمفهوم (الشجاعة)، ومفهوم (البخل) بمفهوم (الاقتصاد)، ومفهوم (الكرم) بمفهوم (الإسراف) وتنعدم المساحات الفاصلة بين هذه المفاهيم وتضمحل.
ثمانية عشر: من يتجاوز الأولويات قد يتجاوز الواقع كله إذا كان مراً ويهرب من مضايقاته إلى الخيال ليرسم لنفسه من خلال الخيال الصورة المرغوبة أو المناسبة، وقد يهرب إلى الماضي ويتجاوز الحاضر والمستقبل والواقع للغرض نفسه.
تسعة عشر: من يتجاوز الأولويات يغلب عليه الاهتمام باللفظ، وتجاوز المعنى وعدم تحديد المفاهيم وعدم العناية بالمصطلحات وربما يتجاوز ذلك كله إلى نوع من الوجدانيات والتأمّلات يُغيّب بها عقله ونفسه لكي لا يدرك حقيقة ما عليه أن يفعل.
عشرون: من يتجاوز الأولويات كثيراً ما يفقد الموازين الدقيقة لما يأخذ ولما يدع ويعمد إلى التعميم، وإيقاف المعايير، والانحياز دون مبرر إلى الذات أو إلى الفئة أو الحزب أو سواها.
أحدى وعشرون: من يتجاوز الأولويات يصير إلى هيمنة التفكير الاحادي واللجوء إلى الأحكام القيميّة والتسرُّع في اصدارها وقد يؤدي ذلك به إلى نفي وجود الآخر حكماً.
اثنتان وعشرون: كذلك كثيراً ما يندفع متجاوز الأولويات نحو اللجوء إلى التأويل دائماً، خاطئاً أو صحيحاً، لدعم سلوك أو ظاهرة، أو لمحافظة على وضع قائم، أو لدعم نزعة دفاعية أو نحوها.
ثلاثة وعشرون: تجاوز الأولويات يؤدي إلى فقدان مداخل من أهم مداخل النقد والتصحيح الذي يمكن أن ينطلق من خلال إدراك الأولويات، ودقة ترتيبها وتنظيمها إلى غير ذلك من انحرافات وسلبيات يمكن رصدها كظواهر وأعراض تنجم عن حالة تجاوز أو فقدان الاهتمام بعلم الأولويات.
أربعة وعشرون: إنّ كثيراً من المشكلات وأسباب الخلاف التي تقع بين حركة الاصلاح، وتيّارات التغيير الاجتماعي تنجم عن الاضطراب في تحديد الأولويات، والاختلاف عليها، ومعرفة (علم الأولويات) قد يساعد على حسم كثير من الخلاف الدائر بين حركات الاصلاح، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن الخلاف بين هذه الأطراف يرجع - عند التحقيق - إلى الاختلاف حول (الأولويات) وطرق تحديدها، والمرجع في تحديدها.
وهذا الذي ذكرنا كله يؤكد ضرورة بناء هذا العلم، وتربية أجيالها على قواعده فذلك أجدى كثيراً عليهم من دراسات اختلاف الفقهاء، والفقه المقارن وكيفية الانتصار للمذاهب والطوائف.
المصدر: كتاب مقاصد الشريعة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق