• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«الجمال» عبادة تهاون الناس فيها

«الجمال» عبادة تهاون الناس فيها
◄الإنسان يميل بطبعه إلى الجمال في مختلف صوره وأشكاله، وقد جاء الإسلام ليؤصل هذا الميل الفطري لدى الإنسان، ويعطيه بُعداً دينياً وفقهياً عميقاً يضبط استمتاع الإنسان بالجمال ويوضح المنفعة المترتبة على ذلك في الدنيا والآخرة.

إنّ الله عزّ وجلّ جميل يحب الجمال، كما أنّه سبحانه وتعالى بث الجمال في أرجاء الكون حول الإنسان، بل وفي الإنسان نفسه. والمتدبر في آيات القرآن الكريم يرى بوضوح أنّ الله، سبحانه وتعالى، يحث عباده على التأمل في عنصر الجمال الذي أودعه في كونه. ومن هنا كان للجمال في الإسلام شأن رفيع، حيث احتفى به ودعا إلى تذوقه، سواء أكان جمالاً حسياً أم معنوياً، وحث الإنسان على التحلي به ظاهرياً ومعنوياً، في ما يعرف بفقه الجمال. ومن أجل تسليط مزيد من الضوء على هذا الموضوع، يتحدث الدكتور عمر شاكر الكبيسي (الباحث والواعظ في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف).

الذي يستهل حديثه مشيراً إلى أنّ كثيراً ما يتردد على أسماعنا حديث النبيّ (ص): "إنّ الله جميل يحب الجمال" صحيح مسلم. والناس في استدلالهم، منهم من يفرط فيضعه في غير موضعه، ومنهم من يقصره في نطاق ضيق. والحقّ أنّ للجمال فقهاً لا يخص هذا ولا ذاك. فالإسلام دين يمجّد الجمال ويحترمه، بل ويدعو إليه كعبادة يحبها الله ورسوله، وقد كان النبي (ص)، يستشعر الذوق الرفيع في التأسيس للجمال بكلِّ أشكاله، عبادة كانت أم معاملة، جوهراً ومظهراً، لذلك كان ينفّر من منغّصات الجمال ويشتدّ نكيره لمن رغب عنه، ويقرِّب ويحتفي بمن رغب فيه.

وفي ما يلي مختارات من بين لمسات النبيّ (ص) في تأسيس قواعد الجمال كعبادة، وذلك من خلال الخطوات الآتية:

 

تأسيس الجوهر الجميل:

أوّل ما ينبغي مراعاته في قواعد الجمال نقاء المنبت، وذلك ببناء الجوهر الجميل الذي يعكس بعد ذلك مظهراً جميلاً. ففي الحديث: "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" سنن ابن ماجة. وإذا تأسّس الجمال الجوهري بتقرير قلب خالٍ من آفات الحسد ونوازل الضغينة وصوارف العجب، فإنّ الإنسان لن يضره حينها الاهتمام بمظهره تحت وطأة الخوف من سلوكيات الكبر أو الرياء، وهو ما أصّله، رسول الله (ص) في الواقع التطبيقي، فقد أشار لأصحابه بخروج رجل من أهل الجنة، فلما نظروا إليه لم يعرفوه بكثير صلاة أو صيام، ثمّ تكررت الإشارة إليه ثانية، فخرج الرجل نفسه يتأبط نعليه وعليه آثار الوضوء.. وهكذا في اليوم الثالث، ما حدا بعبد الله بن عمر أن يتعقبه حرصاً منه لمعرفة خصال آلت به إلى هذا الفلاح، ففوجئ بأنّ الرجل لم يكن قوّاماً ولا صّواماً. فسأله عن حكايته، فقال له: ما هو إلا ما رَأيْتَ، غير أني لا أجِدُ في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسدُ أحداً على خَيْر أعطاهُ الله إيّاهُ. فقال عبدالله: هذه التي بَلَغَتْ بِكَ وهي التي لا نُطيقُ. مسند أحمد بن حنبل.

هي ذي عبادة الجمال في نقاء الجوهر، وهو الجمال الذي إن فات فرداً أو أمة فاته الحظ العظيم، ولا نبالغ إن قلنا ربما سقط من عين الله تعالى.

 

جمال المظهر الخارجي:

لقد وجه النبيّ (ص)، أمّته إلى أن تكون شامة في الناس، ومعلوم أنّ الشامة حسنة يسعى إليها طالبات الجمال في المظهر. فالمظهر الخارجي علامة من علامات اللياقة والكياسة التي تؤثر في الناس من حيث التلقي والسماع. أحسب أنّ الكثير من المسلمين، قديماً وحديثاً، لم يفرقوا بين التعبد بالجمال عن طريق المظهر وبين التخفف من المبالغة في إبداء الزينة. فالنبي (ص) لم يتكلف في ملبسه، لكنه كان جميلاً في مظهره، والمشكلة في مَن يتخفف ويدعو إلى الابتذال أو يتجمل ويماري في الظهور، وذاك وهذا هواجس عنّت لصحابيّ خاف من تسرب الكبر إليه، فاستصرخ سائلاً نبيه (ص) عن علاقة الجمال بالكبر، وقد سمع قوله (ص): "لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". فقال: "يا رسول الله، إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة". قال رسول الله (ص): "إنّ الله جميل يحب الجمال" صحيح مسلم.

وفي فترة من الزمن غابرة، ظن المسلمون أنّ الزهد في مظاهر الدنيا واستنكارها هي دعوة الدين، بل هي الدين، ومن أجلها شرّع حتى صار مألوفاً أن نقرأ في كتب الزهد من يعد الفقر فضيلة. وقد استعاذ منه رسول الله. ثمّ تلت ذلك فترة من الزمن عابرة، ولم تزل حاضرة، تدعو إلى إظهار الجمال وإن كلف ذلك أموالاً طائلة، فصارت الأُمّة بين إفراط وتفريط، وهي أفكار مبناها ردود الفعل وليس الفكر المتوازن.

 

أوّلاً: تقرير فطرية الجمال:

ننتقل إلى ذكر لمسات النبيّ (ص) في إرساء قواعد الجمال للمظهر الخارجي. فإن إلْف الجمال فطرة تجتذب القلوب والأبصار، وما من خصلة جميلة في طبيعة التكوين إلا وأصلها فطرة الله التي فطر الناس عليها. وقد امتن الله على عباده بما وهبهم من خَلْق جميل وهيئة حسنة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الإنفطار/ 6-8). وقال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4). من هنا فقد وجه النبيّ (ص) إلى تقرير مظاهر النظافة كنوع من الجمال الذي هو من قبيل الفطرة، فحرص على أن يكون المسلم جميلاً. فكان يقول: "إنّكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسَكُم حتى تكونوا كأنّكم شامةٌ في الناس فإنّ الله لا يُحبُّ الفُحْشَ ولا التفحُّش" سنن أبي داود. فندب إلى تقليم الأظافر ونتف الشعر الزائد من الشارب والعانة وتحت الإبطين، وعد ذلك من سنن الفطرة لما يُضفي على الإنسان من جمال ورقّة في الطبع.

 

ثانياً: الإنكار على من يعارض الجمال:

في أحايين كثيرة تؤثر الطبيعة في سلوكيات البعض، فيتقاطع مع الجمال في مظهره وسلوكه، وهو أمر استنكره النبي (ص)، حينما بدا على رجل أراد أن يقابله في المسجد، فلما استطلع رسول الله (ص) هيئة الرجل المبعثرة في شكله لم يأذن له، وأشار إليه بيده بما ينبهه إلى إصلاح شأنه، ففعل الرجل، ثمّ رجع فقال رسول الله (ص): "أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟" موطأ مالك. ويا له من تأديب لمن أراد أن يجحد نعمة الجمال التي وهبها الله له، فتشبيه المهمل لمظهره بالشيطان يبيّن لنا حقيقة تلك العبادة ومكانها في رؤية النبيّ (ص). بل وأكثر من هذا حينما شدد على من أطال شاربه، ولم يعتنِ به فقال (ص): "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" سنن الترمذي. والمتتبع لأصول الذوق العام يجد أنّ طول الشارب يؤثر في هيئة الرجل أكثر من اللحية، لالتصاقه بالفم وما يتصل بذلك من الكلام والطعام والشراب، وقس على ذلك من ضرورات التجمّل كلّ ما ينفر الناس. وكثيراً ما أشعر بغبن للإسلام فاحش، جرّاء صنيع البعض من إرسال لحيته من غير نظر أو ترتيب، حتى يكاد الشعر يغطي أعين البعض، ظناً منه بتطبيق السنة وأحسب أنّ السنة أرقى من أن تقصد هذا. والله أعلم.

 

ثالثاً: وجوب إعلان الجمال:

قطعاً إنّ ذلك لا يشمل ما أدى إلى فتنة أو إغراء، أو مما نهى الشرع عنه، حتى لا يتذرع البعض بدعوة النسوة إلى ما هو غير مقصود. ولكن ربما طاب للبعض أن ينأى بنفسه عن بذل المال والميل إلى الحرص في جمع المال وكبت آليات الجمال، ومن المعلوم أنّ إبراز الجمال يحتاج إلى شيء من البذل لإظهاره، وهي نعمة أمر النبيّ (ص) بإظهارها. وقد اعترض النبي (ص) على من قتل الجمال وهو قادر على إحيائه، فقال له: "هل لك من مَالٍ؟". قال قلت: "نعم من كلِّ المال قد آتاني الله عزّ وجلّ من الإبل ومن الخَيْل والرّقيق". قال: "فإذا آتاك الله عزّ وجلّ خَيْراً فَلْيُرَ عليكَ" مسند أحمد بن حنبل. ومغزى ذلك "أنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه ويكره البؤس والتباؤس" (شعب الإيمان للبيهقي). قال المناوي: إنّ مِن شكر نعمة الله إفشاءها.. فلا ينبغي لعبدٍ أن يكتم نعمة الله تعالى عليه، ولا أن يُظهِر البؤسَ والفاقة، بل يبالغ في التنظيف وحسن الهيئة وطيب الرائحة والثياب الحسنة اللائقة (فيض القدير للمناوي).

 

الجمال شعيرة من شعائر المساجد:

إنّ جمال الشكل والهيئة أثر من آثار العبادة التي يجب أن يتسم به المسلم، خصوصاً إذا كان مقصده بيت الله تعالى أو الاحتكاك بجموع الناس. لذلك، فقد وضع الإسلام آليات الجمال استعداداً لمثل تلك المواطن، وكما يأتي:

ضرورة التزين والتجمل للمساجد، فقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31). فالآية تأمر بالزينة عند الذهاب إلى أي مسجد ولأي سبب، والزينة ليست مجرد ثياب تستر العورة، بل هي زيادة فوق ذلك يقتضيها مقام المقصود والاجتماع في بيوت الله تعالى. والحقُّ أنّ قسماً من الناس يولي ذلك اهتماماً طيباً، وقسماً آخر يأبى أن يأتي إلى المسجد إلا بما هو مزدرى من ثياب نوم أو ما شابهها، غير آبه بما يترتب على صنيعه من آثر سيئ. وقد استحب بعض الفقهاء أن يكون للرجل ثوبين: ثوباً للعمل وآخر للصلاة، تحقيقاً لمقصد الجمال في تلك المواضع.

ومما لا شكّ فيه أنّ للجمال أسباباً تؤهله للظهور الحسن، ولعل من أبرز تلك الأسباب النظافة والاعتناء بالجسم. وليس عجباً أن يهتم الناس بالنظافة، فهي فطرة. إنما العجب أن يُلبسها شرعنا الحنيف لباس العبادة في إطار مناسك الجمال. فقد ندب الإسلام إلى الطهارة الحسية والبدنية كلما أراد المرء أن يصلي، تحقيقاً لمعانٍ كثيرة ومنها الجمال. وقد أثنى الله تعالى على نفر من الصحابة كانوا يهتمون بطهارتهم باستعمال الماء والاستجمار معاً، مع شحّته في المدينة، وفيهم نزل قول الله تعالى: (... لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة/ 108). فالنظافة تعطي الإنسان جمالاً. والنبيّ (ص) أراد للمسلم أن يكون نظيفاً وجميلاً في كلِّ شيء، خصوصاً عند حضور الجماعات، وقطعاً لتهاون البعض عن ذلك، ندب عليه الصلاة والسلام إلى غسل الجمعة، فقال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" متفق عليه. بل إنّه (ص) صرّح بوجوبه لمّا رأى نفراً من الناس لا يغتسلون، فقال: "غسل يوم الجمعة واجب على كلِّ محتلم" متفق عليه. وهو أمر يعلي من قيمة الجمال في سياق العبادات التي يحبها الله ورسوله.

ارسال التعليق

Top