1- الكون بأسره يسجد لله ويسبّح بحمده.
2- ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون؟
3- بيان حقيقة سجود الكائنات.
ذرّات الكون بأجمعها تسجد لله وتسبّح بحمده
من الحقائق الجليلة والمعارف الرفيعة التي تضمّنها القرآن الكريم هو إخباره عن سجود الكائنات - بأجمعها - لله وتسبيحها له سبحانه.
وتلك حقيقة عليا لم تسمع إذن الدهر من غير هذا الكتاب العزيز بمثل هذا التفصيل والشمولية.
وبعبارة أُخرى فإنّ القرآن الكريم يخبرنا - وفي صراحة كاملة - أنّ جميع أجزاء العالم - بدءاً من الذرة حتى أعظم مجرّة - تقوم بثلاث وظائف وأعمال كبرى هي:
1- السجود لله تعالى.
2- حمده وتمجيده عزّ شأنه.
3- تسبيحه وتنزيهه سبحانه.
وكأنّ الكون بأسره: «كتلة واحدة» من الخضوع والخشوع، والشعور والإحساس والوعي. أو كأنّ الكون - بجميع أجزائه وذراته - لسان واحد ينطق بحمد الله، ويلهج بثنائه، وقلب واحد ينبض بتمجيده، ويؤدِّي السجود له.
والفرق بين السجود والتسبيح والحمد واضح.
أمّا السجود فهو الخضوع أمام كماله المطلق، أو الخضوع أمام أنعامه وأفضاله.
وأمّا الفرق بين الحمد والتسبيح فيتلخص في أنّ الحمد تمجيد لله وثناء عليه بالجميل الاختياري، في حين أنّ حقيقة التسبيح تعني أنّ موجودات هذا العالم بأجمعها تنزهّه عن أي نقص وعيب.
قال الراغب - في مفرداته: «الحمد لله: الثناء عليه بالفضيلة وهو أخص من المدح، وأعم من الشُّكر، فإنّ المدح يُقال فيما يكون من الإنسان باختياره وغيره، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه كما يُمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه والحمد يصبح في الثاني دون الأوّل، والشُّكر لا يُقال إلّا في مقابلة نِعمة فكلّ شُكر حمد وليس كلّ حمد شُكراً، وكلّ حمد مدح وليس كلّ مدح حمداً».
إذا تبيّن هذا فإنّ علينا الآن أن نتحدّث بالتفصيل عن هذه الأُمور الثلاثة التي هي من معارف القرآن العليا.
- ذرات الكون بأجمعها تسجد لله
طرح القرآن الكريم قضية (سجود الكائنات بأسرها لله) في صُوَر مختلفة ففي بعض الآيات تحدّث عن سجود ذوات الشعور من موجودات هذا العالم خاصّة إذ قال: (وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) (الرعد/ 15).
ففي هذه الآية اُشير إلى سجود الموجودات العاقلة خاصّة، بدلالة لفظة (مَن) في قوله (وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ) مع العلم بأنّ (مَن) تستعمل في العقلاء.
وبما أنّ الآية تخبر عن سجود الموجودات العاقلة كلّها بلا استثناء، لا يمكن حملها على السجود التشريعي الصادر من المؤمنين لأجل امتثال أمر إلههم، لأنّه من الواضح عدم عمومية هذا النوع من السجود لكلّ مَن له عقل وفكر، فإنّ كثيراً من الناس يتركون عبادة ربّهم والسجود له، فعندئذ يجب تفسير الآية بالسجود التكويني الذي سنبيّن مفاده.
وقد اُشير إلى هذا النوع من السجود، أعني: سجود العقلاء، أيضاً في سورة النحل إذ يقول: (وَلِلهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ) (النحل/ 49). والشاهد فيها هو سجود الملائكة.
وفي سورة الحجّ إذ يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ) (الحجّ/ 18).
- محل الاستشهاد هو قوله سبحانه: (وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ) (الرعد/ 15)، باعتبار لفظ (مَن) وإن كانت لفظة (وَظِلالُهُمْ) دالة على سجود الموجودات غير العاقلة أيضاً، لكن بهذا الاعتبار تدخل الآية في الطائفة الرابعة الآتية.
وفي طائفة أُخرى من الآيات تحدّث القرآن عن نطاق أوسع للسجود، فتحدّث عن سجود كلّ الدواب، إذ يقول - كما في الآية المتقدّمة - .
(وَلِلهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ).
ثمّ تحدّث ثالثاً عن سجود النباتات والأشجار إذ قال: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (الرحمن/ 6).
ثمّ تحدّث رابعاً عن سجود أكثر شمولاً، إذ قال وهو يخبر عن سجود ظلال الأجسام: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) (النحل/ 48). وقد تقدّم في التعليقة السابقة دلالة قوله: (وَظِلالُهُمْ) على مفاد هذه الآية أيضاً.
وتحدّث خامساً عن سجود الشمس والقمر والكواكب والجبال والشجر والدواب إذ يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) (الحجّ/ 18).
فهذه النصوص القرآنية تفيد بأنّ السجود ظاهرة عامّة، وحالة تشمل كلّ أجزاء هذا الوجود دون أن تختص بشيء معيّن.
إنّ المهمّ - هنا - هو فهم حقيقة هذا السجود، وكيف أنّ هذه الموجودات أجمع (عاقلها وغير عاقلها) تظهر الخضوع أمام الله وتسجد له سبحانه.
- ما هو المقصود من سجود أجزاء الكون؟
يؤدِّي الإنسان عمل السجود - عادة - بالهوي إلى الأرض، ووضع الجبين أو الذقن على التراب، وإلى هذا يشير القرآن الكريم إذ يقول: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا) (الإسراء/ 107).
وهذه الهيئة - ما هي في الحقيقة - إلّا الشكل الظاهري للسجود، ولكن جوهرها وروحها هو (إظهار غاية التذلّل والخضوع أمام المعبود).
وهنا ينطرح هذا السؤال وهو:
هل يلزم - في السجود - وجود هيئة خاصّة بحيث لا يصح استعمال هذه اللفظة مع عدم تلك الصورة الخاصّة، أو أنّ ملاك السجود هو مجرّد إظهار الخضوع، فإذا تحقّق ذلك، تحقّقت حقيقة السجود وصح إطلاق لفظة السجود على ذلك المورد دونما إشكال، حتى وإن لم يكن في البين تلك الهيئة الخاصّة، حتى أنّ إطلاق السجود على الهيئة الخاصّة ليس إلّا باعتبار أنّ تلك الهيئة تحكي في نظر العرف عن غاية التواضع ومنتهى الخضوع وباعتبار أنّها - في الحقيقة - طريق إلى إظهار الصغار والتذلّل أمام المعبود؟
الحقّ أنّ القرآن يختار في هذه المسألة الطريق الثاني، بمعنى أنّ السجود في نظر القرآن الكريم هو إظهار التذلّل والخضوع في أيّة صورة تحقّق وفي أي شكل وقع.
قال الراغب في مفرداته:
السجود أصله التطامن والتذلّل، وجعل ذلك عبارة عن التذلّل لله وعبادته، وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد، وذلك ضربان:
سجود باختيار وليس ذلك إلّا للإنسان.
وسجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات حتى فسر قوله تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) (البقرة/ 58)، بقوله: (متذلّلين منقادين).
وعلى ذلك فاحتمال أنّ السجدة مختصة بالهيئة المخصوصة واستعمالها في غيرها مجاز، بعيد، كاحتمال أنّ المقصود هو أنّنا ندرك الخضوع والسجود من الموجودات غير الشاعرة لا أنّها تظهر من نفسها التذلّل والخضوع الذي هو أبعد، لكونه خلاف المتبادر من نسبة السجود إلى ذوات الموجودات بأنفُسها، لا أنّ الغير يدرك ذلك منها من دون أن توجد حقيقة السجود في ذواتها.
على أنّ العرف والعقل هما أيضاً اختارا هذا الطريق (أي عدم الخصوصية) في أمر استعمال الألفاظ.
المصدر: مجلة الرياحين/ العدد62 لسنة 1432هـ
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق