• ٢١ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الخطاب القانوني للإسلام

الخطاب القانوني للإسلام

لو تأملنا في أنظمة القرآن لوجدنا المقياس عند الله تعالى هو قوله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) و"لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" و"الناس سواسية كأسنان المشط" بينما نظرية الجنس المختار لم تتخل عنها جميع الدول الكبرى أو الصغرى والإِسلام ينظر إلى المساواة واللاطبقية في الجانب الإِيماني والحكم والحق.
ألا فانظر إلى حياة القائد الرسالي والأئمة الأطهار وسلوك الصحابة الأجلاء قد رسموا نموذجاً في السلوك والتربية الصالحة ولم يفكك القانون بين الدولة وبين الشعب ولم يلحظ الدولة لها السيطرة على رؤوس الشعب واستعبادهم.
وإنما جاء لهم بأكاديمية الشرق والغرب قد تكللت بأجمل حضارة وذلك بتمسكهم بالقرآن والسنة وكان خطابه القانوني بنحو القضية الحقيقية العامة والبث القرآني إلى كافة الأفراد فالدولة لا تكون قانونية إلا إذا خضعت لجميع الأنظمة والقوانين كما يقول سبحانه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام/ 50). فالحكم معتور لنفس القائد الرسالي كما يقول الدكتور ثروت بدوي (مبدأ المشروعية يهدف إلى جعل السلطات الحاكمة في الدولة تخضع لقواعد ملزمة لها كما هي ملزمة بالنسبة للمحكومين) من كتاب النظم السياسية ص 149.
أو كما يراه الدكتور طعيمة الجرف (هذه الدولة الاستبدادية التي يختلط فيها القانون بإرادة الحاكم ومشيئة دون أن تخضع هذه الإِرادة أو المشيئة لقيود محددة معلومة أن الدولة المعاصرة دولة قانونية تحكمها قاعدة خضوع الحكام للقانون والتزام حكمه في كل ما يقوم بين الدولة والمحكومين من علاقات من جانب أو بينها وبين الوحدات الدولية الأخرى من جانب آخر) من كتاب نظرية الدولة ص 21.
أما النظرية القديمة فتعتبر اندماج السلطة بشخص الحاكم فإِذا قام شخص آخر أقوى منه اكتسب ذلك الرداء القانوني فالسلطة القانونية ترتدي بشخص الحاكم ولذا يقول الدكتور ثروت بدوي (من كتاب أصول الفكر السياسي والنظريات والمذاهب السياسية الكبرى ص 39):
لم تكن الجماعات البدائية القديمة تعرف التنظيم السياسي ولئن كان لها رؤساء أو قادة فإنهم كانوا يكتسبون سلطاناً شخصياً عرضياً غير مستقر يزول بمجرد ظهور فرد آخر أكثر قوة أو يفوقهم ذكاء وخبرة وإنما ظهر التنظيم الإِداري حينما تكونت القبائل وحصلت الحروب أو الاتصالات الأخرى بشتى أسبابها.
ويحدثنا (مونتسكيو) في كتابه روح القوانين أن كل الشعوب بما في ذلك القوم من الهنود الحمر الذين كانوا يأكلون أسراهم لهم قانون شعوب وأن التمييز بين الحرب والسلم عرفته القبائل البدائية وعرفت معه قواعد جرى بها العمل كإرسال واستقبال المبعوثين إلا أن هناك من يخالف هذه النظرية ويرى أن القانون الدولي لم يعرف حتى لدى أكثر الشعوب القديمة حضارة وأن العالم القديم لم يستوعب المفهوم الأساسي لقانون الشعوب لأنه لم يكن يحترم الإنسان بوصفه إنساناً وكان يعتبر الأجنبي عدواً أو في أحسن الأحوال جاسوساً. ولم تكن للمعاهدات حرمة بل إن حصانة السفراء كانت ترجع لعقيدة دينية وليس لفكرة قانونية. بينما النظام الإسلامي يرى شمول الحكم لسائر الطبقات بلا فرق بين السيد والمسود ولا ينظر إلى عنوان الدولة في توجيه الخطاب لأن الحكم عام للفرد والمجتمع ولذا نشاهد (جيركه) في تعريفه للدولة بأنها الدولة التي تخضع نفسها للقانون وليست تلك التي تضع نفسها فوق القانون (من كتاب النظم السياسية للدكتور ثروت بدوي ص 168).
إلا أن (هوبز) و(بوفندروف) قد أنكرا صفة القانون وعروضها على الدولة وقال (هيجل) إن القانون الدولي يوصف به بلحاظ العالم الخارجي للدولة لا لنفس الدولة وقام (أوستن) بنظرية هوبز وقال لا بد من وجود سلطة ذات سيادة هو شرط أساسي للقانون وأن تكون السلطة مسبقة على القانون ولما علم أن المجتمع الانكليزي يرى أن هناك أحكاماً غير خاضعة للسلطة المسبقة كالعرف والعدالة وبعد ذلك فرق بين المصادر المباشرة وغيرها ولكن بعد ذلك أنكر كون هذه المصادر للقانون ووصل إلى نهاية فكره بأن القانون الدولي وضعية أخلاقية.
والذي يبدو أنه لا بد أن يفرق بين مصادر التشريع ونفس التشريع كما أنه لا بد أن يكون القانون حاملاً للعلوية وأما إذا كان في صف المساواة أو الأسفلية يخرج عن دائرة القانون ويكون من نوع الالتماس والترجي الذي يبتعد عنه طابع القانون ومفهومه الحقيقي الذي وضع من أجله.
والذي نلاحظه من القانون الوضعي بصورة عامة لم يكن حاوياً لأهلية الخطاب لأن الأهلية محددة بوجود خاص بعيداً عن الأهواء والميولات والعواطف والنزعات والحب والبغض وإنما يرى الجميع على مستوى واحد أحبه إليه أقربه إلى الطاعة والانقياد كما في شخصية النبي المدعمة من الوحي الإِلهي.
ويتعرض الدكتور ثروت بدوي في هذا الميدان إلى القول بخضوع الدولة للقانون أو بنظام الدولة القانونية يعني أن جميع الأشخاص في الدولة الطبيعية منها والاعتبارية الخاصة والعامة الأفراد والهيئات ملزمة بالامتثال لأحكام القانون من ناحية وأن هذه الأشخاص من ناحية أخرى تملك تحت يدها سلاحاً قانونياً لحماية تلك الأحكام كلما تعرضت للنقص أو المخالفة (من كتاب النظم السياسية ص 153).
أما الديانة المسيحية فقد اعتبرت للفرد الكيان الاستقلالي وانتزعته من المجتمع على أساس ما له من القدرة والحرية وإلى ذلك يحدثنا الدكتور ثروت حيث يقول (ميزت بين الفرد بوصفه إنساناً وبين الفرد بوصفه مواطناً فقد نزعت بذلك الفرد من الجماعة وجعلت له وجوداً مستقلاً عنها على خلاف ما كانت عليه الحال في العصور القديمة التي كانت تذيب الفرد في الجماعة التي يعيش فيها) (الدولة القانونية ص 28/مجلة إدارة قضايا الحكومة/العدد3 لسنة 1959).
فقد ارتكزت الدولة الإسلامية كما يلي:
1- الدستور.
2- الاعتراف بالحقوق الفردية.
3- التدرج في القوانين عن طريق أهل البيت (ع) كما يراه الأمامية الإثني عشرية لأن لهم اللياقة الكبرى بعد الرسول (ص) في التشريع في التفريعات أو أن وظيفتهم البيان لما شرعه النبي (ص) وليس دورهم التشريع وبهذا سار عليه علماء القانون.؟ (ارجع إلى كتاب الرقابة على أعمال الإدارة ص 22 للكاتب محمد كامل والنظم السياسية ص177 للكاتب ثروت بدوي).
أما النظرة السنية فقد حددت الجانب التشريعي في أشخاص أربعة وهؤلاء الأشخاص ذهب بعضهم إلى القياس والاستحسان والإجماع وبعضهم وقف على النص.
إن مثل هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم في نظر العامة مجتهدون لهم آراء خاصة يستعان بآرائهم على توسعة التشريع الإسلامي إلا أن الذي يعتقده الإثني عشرية أن الأئمة لهم صلاحية التشريع دون مجرد تطبيق الكبرى على الصغرى أو الاستنباط ولذا إن للفقه الشيعي الأهمية الكبرى أمام التشريع العالمي.
وبهذا يقول الدكتور صبحي صالح ولأن في المذهب الجعفري من الكنوز الفكرية الفقهية ما يبوئه مكاناً علياً في التشريع (النظم الإسلامية للدكتور صبحي صالح ص 208 ط 4- 1978م.
ولذا تجد الإمام أبو حنيفة عندما جمعه المنصور مع الإمام الصادق (ع) فلما أجابه عن أسئلته برمتها قال أبو حنيفة يشيد بالإمام جعفر الصادق (ع) (أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس) (من كتاب الإمام الصادق لأبي زهرة ص 38).
إلا أن كل أولئك بعد عرضهم للتشريع يعتقدون أنه يسير على وفق الكتاب والسنة ولم يتقبلوا القياس كما قال الإمام علي (ع) لو كان الدين يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره وذكروا أنه ليس من مذهبنا القياس وأن أول من قاس إبليس إذ قال: خلقتني من نار وخلقته من تراب.
لا بد أن نلحظ المقارنة بين النظام الدولي والتشريع الإسلامي إذ يتكفل النظام الدولي المهمة التنظيمية فقط بخلاف القانون الإسلامي فإنه مشتمل على الجانب الحضاري والتنظيمي بغض النظر عن المايز الدنيوي والأخروي والدخول في العمق البشري.
ويحدثنا حامد سلان عن المقارنة بين النظامين إذ يقول: وإذا ما انتقلنا إلى عقد المقارنة بين الأحكام التي يشتمل عليها كل من النظامين يجب بادىء ذي بدء أن ندرك أن الطبيعة القانونية للنظامين طبيعة مختلفة اختلافاً أساسياً فأحكام القانون الدولي أحكام دنيوية خالصة تصدر عن مصادر دنيوية خالصة وليس في نظام القانون الدولي سلطان أو سلطة شارعة تسمو على سلطة المخاطبين بأحكامه.
أما الشريعة الإسلامية التي ظهرت في القرن السابع الميلادي فهي شريعة دينية خالصة ومصادرها دينية خالصة وأحكامها تقوم على تنظيم أمور الدين وأمور الدنيا معاً وهي شريعة منزلة والمشرع أو الحاكم فيها هو الله سبحانه وسلطانه سلطان رباني يسمو على كل سلطان آخر (كتاب أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية ص 4- 18- 46- ط 1970).
وعلى الجملة ان السيطرة التشريعية من قبل الإسلام تقوم على وحي إلهي أو تشريع نبوي والخطابات الموجهة للشعب على نمط واحد من غير تبعيض في الطبقات أو كون الخطاب نابعاً من البرجوازية أو الأرستقراطية بل توجه الخطاب والحكم من قبل تلك الطاقة العظمى الإلهية في خط عرضي مستمد من تلك الطاقة إلا أن التبليغ للشعب يقرر عن طريق ذلك الصوت المشرب رحمة وحناناً للأمة لأنه وعاء الحوادث والتقبل له إلا أن خطابه للشعب كان بنحو الموضوعية دون الطريقة المحضة فأمره بالأمر أم وليس خارجاً عن الأمر به.
وبهذا العرض يتبين إن الإسلام قانونه ذو مصدر إلهي يحكم المجتمع المسلم وغيره باحترامه.
أما القانون الدولي فالمجتمع هو الذي يخلق قواعد القانون ويحفظ ما للأفراد من حقوق وحريات.
فمن مجموع ذلك يمكن تصوير الاتفاق في جانب آخر بين النظامين على أساس أنهما يرمزان إلى كون القانون كفكرة مستقلة في معزل عن الدولة سابقاً عليها وإن اختلفا في ناحية خلق القانون من قبل المجتمع أو الطاقة الإلهية وقد سار على هذا النهج (ويجي وكلسن) (من كتاب الأحكام العامة للدكتور محمد طلعت ص146).؟
وقد تتصور المقارنة على نحو الاتجاه الطبيعي حيث أن القانون يمكن تصويره على أساس انطوائه في طبيعة الأشياء في الكون وفي طبيعة العقل البشري وحقوق الإنسان الأساسية.
وأطلق على هذه النظرية إسم القانون الطبيعي وسار على وفقها جماعة يرون بأن العقل البشري يمكنه أن يستنبط القانون الطبيعي من مجموع هذه المكونات الطبيعية.
إلا أن جعل الخطوط العريضة للعدالة الطبيعية وإن جاء عن طريق العقل إلا أن الفكرة الإسلامية التي تسير في رحاب أهل البيت (ع) هي أنهم قد وسعوا الأجواء للتشريع الإسلامي بأكثر مما سار عليه الفقه السني وكذا لو مضينا في موكب الأشاعرة من إنكار العقل البشري في فهمه ودركه للمصالح وعدم تمييزه للخير والشر وإنما العقل يسير توأماً مع الوحي الإلهي فالحسن بما هو لا وجود له إلا إذا أمر الله به ويكون الأمر قبيحاً إذا نهى الله عنه.
ولكن الدكتور محمد طلعت قد بنى المقارنة الإسلامية على أساس الفكرة الأشعرية (من كتاب الأحكام العامة للدكتور محمد طلعت ص149) وما نظر إلى الخط الإمامي العدلي حيث إنهم لم ينكروا حقيقة الإدراك والتحسين والتقبيح العقليين.
ولنقدم لك الفكرة في ميدانها الأصولي الذي اتخذه الخط الإمامي أن العقل ليس له صلاحية الوضع التشريعي سواء كان أمراً أم نهياً ولكن لم يغلق الباب عليه من حيث الإدراك بالتزام الشعب إلى دور الطاعة بينما الخط الأشعري ينكر إدراك العقل والخط العدلي ينكر الوضع التشريعي ولا ينكر الإدراك.
ويتصور العقل في نقطتين:
1- العقل النظري وهو أن المدرك مما ينبغي أن يعلم.
2- العقل العملي وهو أن المدرك مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل.
فالشيء الذي يدرك فيه الحسن والقبح في الجانب النظري لأن الكمال والنقصان فيهما مما ينبغي أن يعلم بهما دون ما ينبغي أن يعمل بهما فإذا أدرك العقل الفعل لكماله أو نقصانه كان من نوع ما ينبغي أن يعمل به ويكون محله رتبة متأخرة عن العقل النظري.
ولسنا في صدد عرض الفكرة تفصيلاً وإن أحببت المطالعة في هذا الميدان فراجع ما كتبه علماء الأصول من السنة والشيعة.
والغرض أن القانون الطبيعي في النظرة الإسلامية ما كان بوحي إلهي فإنه المصدر الأول للتشريع لأن الإحاطة البشرية قاصرة عن معرفة جميع متطلبات البشر المادية والمعنوية ولذا تجد القوانين الدولية دائماً في دور التعديل إلى ما هو مناسب لحاجيات البشر بين كل فترة وفترة لقصورهم الذهني عن تناول الأبعاد المطلوبة بينما الفكر الإسلامي له الاستقامة لدركه لجميع متطلبات البشر إلى غاية الخط النهائي.
والقانون بصورة عامة لا بد أن يقع في صياغة التدوين والكتابة أو سائداً لدى العرف.
أما بحسب الديانات فقد دونت اليهودية كتابها التوراة والتلمود بعد موسى (ع) وهكذا بالنسبة الى المسيحية فقد دونت الأناجيل بعد المسيح (ع).
أما الدستور الإسلامي فقد أمر الرسول (ص) بتدوينه وجعل كتبة معينين لتحريره.
وإن كان القانون له قدم تاريخي إلا أن فقهاء القانون الوضعي عندما يتحدثون عن أول تاريخ مدون يذكرون دستور الولايات المتحدة الصادر سنة 1787 المسمى بدستور فيلادلفيا والدستور الملكي الفرنسي الصادر في 3 سبتمبر 1791 وهو أول دستور فرنسي مدون (من كتاب القانون الدستوري للدكتور وحيد رأفت ورايت إبراهيم ص4).

المصدر: علم الاجتماع بين المتغير والثابت

ارسال التعليق

Top