◄العبوديّة لله هي مبدأ التحرر والانطلاق من كلّ قيد وعبوديّة للنّاس أو للشهوات والأنانيّات، لأنّ العبوديّة لله تحقّق التحرّر الكامل، وتشعر الإنسان باكتمال إنسانيته، لأنّه في هذه الحالة ينزع إلى الكمال ويتّجه إلى الخير ويتعالى على الشرّ والرّذيلة، لأنّه يتّجه إلى الله مصدر الخير والكمال.
ولإيضاح هذا المعنى، يمكننا أن نركّز على الآثار العمليّة للعبوديّة في حياة الإنسان بما يلي:
1 ـ الأثر النفسي:
لم يكن مفهوم العبوديّة مفهوماً نظريّاً مجرّداً يقتنع به الفكر، ويستجيب له العقل دون أن تكون له آثار نفسيّة وأخلاقيّة تعمل على تطهير وجدان الفرد وتغيير محتواه الداخلي، وتنمية ملكاته الأخلاقيّة الباطنيّة.
فالإنسان عندما يكتشف الحقيقة الكبرى في حياته ـ حقيقة العبوديّة والارتباط بالمبدأ الكامل ـ ويتّجه نحوه بدافع الخوف والرجاء أو ينشد إليه بمشاعر الحبّ والشوق.. يظل يبني كلّ تصوّراته وأحاسيسه وعواطفه، ومفردات سلوكه على أساس تلك القواعد النفسيّة.
ومن هذه الحقيقة الكبرى (العبوديّة) التي أدرك وجودها وشاهد آثارها المتجلّية في نفسه وفي عالمه، ينطلق فيتّخذ من المبدأ الحقّ (الله) معبوداً يأله إليه وغاية يتّجه نحوها، وإلهاً يدين له، بالتقديس والتعظيم والحبّ الأوحد، فتنتج كلّ هذه الأحاسيس والتوجّهات النفسيّة آثاراً تكامليّة وحقائق بنائيّة تؤدي دورها في أعماق الذّات، كما تعمل على إعطاء هيكل السلوك صيغته وطابعه الخاصّ به.
ومن جملة الآثار النفسيّة التي يحدثها الاتجاه العبودي الأحدي نحو الله هو إنقاذ الشخصيّة من التوزّع والانقسام والاثنيّة وتخليصها من القلق والشك والتردّد والنفاق، بسبب وحدة الاختيار والاتجاه.
ذلك لأنّ المؤمن الذي أخلص العبوديّة لله يسير باتجاه نفسي موحّد، ويعيش تماسكاً داخلياً لا تناقض فيه، ولا قلق، فتمتدّ في نفسه آفاق إنسانيّة متعالية، وتنمو في أعماقه اتجاهات غائيّة متسامية، فيملأ حبّ الخير قلبه، وتتجسّد الاستقامة في سلوكه، فيعيش في نضال دائم وشوق متواصل من أجل الاتجاه نحو صفات المعبود وآثار وجوده.. كالعدل والرّحمة والإحسان والتواضع والصدق والعفو... إلخ.
فتتسامى هذه الخصائص والملكات الإنسانيّة في نفس الإنسان المؤمن، وهكذا تترك العبوديّة آثارها التغييريّة التكامليّة في نفس الإنسان المؤمن ووعيه.
2 ـ الأثر الاجتماعي:
وللعبوديّة آثار اجتماعية وأخلاقيّة مهمّة تنعكس على حياة المجتمع البشري وتؤثر على علاقاته الإنسانيّة المختلفة.
فالشعور بالعبوديّة لله ينقذ الإنسان من الخضوع لإرادة الطغاة والمستبدّين، والشعور بها يحرر الإنسان كذلك من الشهوات ومن سيطرة حبّ المال وجمعه وتكديسه، وتسخير الآخرين وظلمهم واستغلالهم من أجل هذا المعبود الزائل.
والشعور بالعبوديّة لله: يحرّر الناس، من الصراعات والمآسي التي يعيشونها من أجل الاستعلاء والتحكّم والمكاسب المختلفة.
والشعور بالعبوديّة لله يشعر الإنسان بالمساواة والعدل بين الناس.. لأنّهم جميعاً متساوون في صفة العبوديّة لله الواحد الأحد، لذا فإنّ المجتمع الذي تخلص فيه العبوديّة لله لا يجد الناس فيه غاية في الحياة غير الله، ولا يملأ آفاق نفوسهم شيء غير العبوديّة لله، فيحطّم الناس حينذاك أصنام العبوديّات المختلفة، صنم المال، والشهوة، والجاه، والسلطة، والكبرياء... إلخ. ليكونوا أحراراً كما خلقوا.. وكما أراد لهم خالقهم العظيم.
3 ـ الآثار المدنيّة:
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود/ 61).
الآية الكريمة توضِّح بجلاء أنّ دور الإنسان في هذه الأرض، هو إعمارها وإصلاحها، وملؤها بالحياة والنشاط، والعمران، والمدنيّة... إلخ.
فالإنسان عندما يمارس نشاطه المدني.. من علم واختراع وزراعة، وصناعة، وعمران، إنّما يحقّق رسالته الأولى في الحياة، وهي إعمار الأرض وإصلاحها، ويعبّر عن وظيفته ودوره العبودي في هذه الأرض.
والإنسان المؤمن يدرك هذه الحقيقة ويندفع باتجاهها، ليحقق مظهراً سلوكياً من مظاهر عبوديّته لله في هذه الأرض، فيملأها بالحياة والنشاط والعمران.
وفي نهاية دراستنا لمفهوم العبوديّة نستنتج أنّ العبوديّة لله هي جوهر الدّين.
وهي الطريق إلى التكامل النفسي والسلوكي في الحياة.
وهي الطريق إلى التوافق والانسجام مع صيغة هذا العالم في وحدة وجودية رائعة.
وهي الطريق إلى الإصلاح والعمران.
وهي الطريق إلى السعادة والحياة الاجتماعية المستقرّة.. وحصيلتها الفوز بمرضاة الله وجنانه.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق