والحكماء ذوو الألباب والإيمان هم الذين يحوّلون الخسائر إلى أرباح، والنوازل إلى نجاة، والمحن إلى منح.. فباستطاعة كلّ عاقل أن يحوّل المالح أو الحامض إلى حلو، ألَمْ تَذُقْ طعم الليمونة ذات الطعم الحمضي المالح قبل أن يضاف إليها السكر؟ إنك بقليل من حبات السكر تحوّل الليمون ذا الطعم الحامض المالح، إلى شراب حلو المذاق!!
أمّا الجاهل فهو الذي يضاعف المصيبة، ويزيد حجم الخسائر، فلا يرضى بها، ولا يستطيع أن يتعامل معها، يتذمر، ويتأزم، فيزداد سوءاً، وربما أهلك نفسه.
جاء في كتاب "دع القلق"، للمؤلف الأمريكي المشهور "دايل كارينجي" أنّ أحد الأشخاص في مدينة "بروكين" بالولايات المتحدة قد أصيب بقرحة شديدة في "الاثنى عشر"، وقد تورمت واشتدت، حتى أشار عليه الأطباء بكتابة وصيته استعداداً للرحيل من الدنيا إلى الآخرة، فترك الرجل وظيفته الكبيرة التي كان يشغلها، وقبع في بيته ينتظر الموت!!
وبينما هو يفكر في أمره، إذا به يتخذ قراراً أدهش مَن حوله.. لقد قرَّر أن يحقق ما كان يتمناه طوال حياته، وهو أن يطوف العالم، وقال: ما دمت سأعيش شهوراً معدودة كما قال الأطباء.. فلماذا لا أحقق ما أتمناه؟ وقام فعلاً بالحجز على أوّل رحلة بحرية حول العالم، بعد أن اصطحب معه الوصية والتابوت، كما قرر أن يأكل ويشرب كلّ ما يحبه ويتمناه، وما كان محروماً منه في أثناء مرضه، ثمّ سافر الرجل واستمتع برحلته حول العالم، وقد استغرقت رحلته شهرين، عاد بعدها معافى من مرضه، وقد استعاد وظيفته وعاش بعد ذلك حقبة من الزمن سعيداً مستقراً.
وعلى امتداد الزمن نجد نماذج بشرية مبهرة، جديرة بالدراسة والتأمل، كي نستلهم منها الحكمة، ونتعلم منها الدرس، ونكتسب منها الخبرة، ونزداد من قصصهم عبراً وعظات وإيماناً.
نموذج يوسف (ع):
إنّه ذلك النموذج العظيم، الذي أفرد الله عزّ وجلّ له سورة، على غير المنهج القصصي في القرآن الكريم.
يقول الإمام القرطبي: ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن، وكررها بمعنى واحد، في وجوهٍ مختلفةٍ، وبألفاظ متباينة على درجات البلاغة والبيان، وذكر قصة يوسف (ع) ولم يكررها، فلم يَقْدِرُ مُخالف على معارضة المكرر، ولم يقدر مخالف على معارضته غير المكرر، والإعجاز واضح لمن تأمل، وصدق الله: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف/ 111).
لقد نزَّل الله عزّ وجلّ في نبيه الممتحن الصابر "يوسف" سورة فريدة في ألفاظها، وتعبيراتها، ممتعة لطيفة، تسري في النفس سريان الدم في العروق، برغم أنّها من السور المكية التي تركز على الإنذار والوعيد، حيث شاع فيها جو الرحمة والأنس والحنان، حتى قال خالد بن مَعْدان: "سورتا يوسف ومريم مما يتفكه به أهلُ الجنّة في الجنّة".
وقال عطاء: "لا يَسْمَع سورة يوسف محزون إلا استراح" (حاشية الصاوي على تفسير الجلالين).
ومما يؤكد ذلك ويؤيده أنّ سورة يوسف نزلت على النبيّ (ص) بعد سورة هود، حيث توالت عليه الشدائد وعلى المؤمنين، وخاصة بعد أن فقد ناصرَيْه: فقد زوجه خديجة – رضي الله عنها – التي واسته بمالها وكلماتها، وحسن دفاعها، كما فقد عمّه أبا طالب الذي كان محل هيبة وتقدير من قريش.
إذن.. اشتد أذى الأعداء لرسول الله (ص)، وكانت فترةً عصيبةً، فنزلت سورة يوسف تسلية له وتخفيفاً عنه، وكأنّ الله عزّ وجلّ يقول لنبيه: لا تحزن يا محمّد، ولا تنفجع لتكذيب قومك وإيذائهم لك، فإنّ بعد الشدة فرجاً، وإن بعد الضيق مخرجاً.. انظر إلى أخيك يوسف كيف نقله الله من المحنة إلى المحنة، فعاش حياة الطمأنينة والراحة والبشر والأنس، وجعل الله قصته بلسماً للبائسين، وعلاجاً للمبتلين، فجاءت سورة يوسف بأروع الأخبار وأمتعها، تبشر كلّ مكروب بقرب الفرج، حتى يعيش كلّ مُبْتَلى على هذا الأمل، ومن ثمّ يستطيع – بحول الله وقوته – أن يحول المحنة إلى منحة.
لقد مرّ يوسف (ع) في حياته بعدة محن، عاش محنة كيد إخوته له، ثمّ محنة البئر الذي ألقوه في غيابته (أي في قعره) وظلمته، ووحشته، وغربته والخوف، كما واجه (ع) محنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى أخرى، دون إرادة منه، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله، كما واجهته محنة كيد امرأة العزيز والنسوة، ومحنة السجن بعد رغد العيش في قصر العزيز.
لقد خرج يوسف (ع) من هذه المحن على اختلاف صنوفها، واستطاع برعاية ربه عزّ وجلّ أن يجتازها كلها متجرداً خالصاً، واستطاع أن ينتصر عليها، فقد منّ الله عليه ومكّنه في الأرض، وكان وزيراً للاقتصاد في مصر آنذاك، وجمع الله بينه وبين أبويه وإخوته، وتحققت رؤياه، وها هو ذا يوجز رحلته مع تلك المحن، ويبرز المنح التي أثمرتها هذه المحن لمّا صبر وتجرد لربه سبحانه، إذ يقول رب العزّة عزّ وجلّ على لسان يوسف (ع): (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 99-101).
نموذج أيوب:
إنّه نموذج عظيم في الصبر على الضراء، سجله رب العزة في كتابه الكريم بقوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء/ 83-84).
فقصة أيوب من أروع القصص المؤثرة التي تبيّن لنا كيف نجتاز المحنة ونحولها إلى منحة، والآيتان المذكورتان – آنفاً – تُجْملان القصة دون تفصيل، فتعرضان دعاء أيوب (ع) وسرعة استجابة ربه لدعائه، ففي اللحظة التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب الذي جعله يدعو بدعاء كلّه أدب وحاجة إلى الله تعالى كانت الاستجابة الربانية السريعة، إذ لم يزد أيوب (ع) في دعائه على قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، ووصف ربه تعالى: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فكانت الرحمة الإلهية التي أنهت المحنة والابتلاء، حيث رفع الله عنه ضره في بدنه فشفاه وعافاه، ورفع عنه الضر في أهله فعوّضه عمن فُقد منهم، ورزقه مثلهم، وقيل: هم أبناؤه، فوهب الله لهم مثليهم، أو أنّه وهب له أبناءً وأحفاداً.
ففي محنة أيوب درس للبشرية كلّها، وفي صبر أيوب عبرة للبشرية كلّها، وإنّه لنموذج في الصبر والأدب وحسن التعامل مع المحن وحسن العاقبة، وإنّه لمستوى راق تتطلع إليه الأبصار وتتمناه النفوس.
نموذج يونس (ع):
لقد أتت قصة يونس في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ومن بين هذه المواضع ورودها مجملة موجزة في سورة الأنبياء، ومفصّلة في سورة الصافت، ففي سورة الأنبياء ذكر الله تعالى ذا النون وهو يونس (ع) في قوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 87-88).
وقصة ذلك أنّه أُرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدراً، وتركهم مغاضباً، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم، ظناً منه أنّ الله لن يضيق عليه الأرض، فهي فسيحة، والقرى كثيرة، والأقوام متعددون.
وقاده غضبه وضيقه إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة فركب فيها، حتى إذا كانت في اللجة ثقلت، وقال ربانها: لابدّ من إلقاء أحد ركابها في البحر كي لا تغرق، فساهموا (أي أجروا قرعة)، فوقعت على يونس فألقوه أو ألقى بنفسه، فالتقمه الحوت، مُضَيِّقاً عليه أشد الضيق، فلما كان في الظلمات، ظلمة جوف الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل نادى: (أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الصافات/ 87)، فاستجاب الله دعاءه، ونجّاه من الغم الذي هو فيه، ولفظه الحوت على الساحل.
* أستاذ المناهج وأساليب التربية الإسلامية المساعد
المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1936 لسنة 2011م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق