انّ محمداً (ص) وقد أجمع العرب، وخاصة قريشاً على معاداته ومقاطعته، فجعلوا منه هدفاً للعداء والسخرية، ومثلاً للكذب والافتراء – كان يستشعر ثقل المهمة الخارقة، ويحس من أعماقه تعقيدات الموقف، وملابساته المتداخلة، فمن الطبيعي أن تعتريه حالة من التساؤل عن مصير المهمة، في هذا الوسط الجدب القاحل، وقد عكس شعوره هذا بقوله، بعد أحد التجارب المرّة المؤلمة: "اللهمّ إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس...".
إنّها إحدى التطبيقات الطبيعية لقانون التكوين البشري، فمحمد (ص) فرد من أبناء هذا النوع، المحدود الهمة والطاقة والقوة. وكان جدبُ الاستجابة كفيلاً بإمحاء واقتلاع جذر الفكرة؛ لأنها في الأساس للبشر، لهؤلاء المخاطَبين، وليس للخلود على الفكرة؛ لأنها في الأساس للبشر، لهؤلاء المخاطَبين، وليس للخلود على الرفوف العالية، ولا للمران الذهني الجرد، ولكنّ محمداً نبي، وهو واثق من هذه الرسالة إلى حد الكشف الحسي. إنّ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ...) (المدثر/ 1-2)، سابقة بموضوعها الحي الساخن على أيِّ استشعار بالضعف. وإذا وجد هذا الاستشعار حيّزه الطبيعي من قانون التكوين الإنساني في حياة محمد، فإنّ صدى النداء السماوي يقوم بمهمة الإزاحة البديلة، يقلب المعادلة تماماً، وهذه الحالة تندرج في إطار القاعدة الكلية التي تصممها الآية الكريمة: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/ 110).
إنّ أصالة النبوة في ضمير هذا الإنسان، هي نقطة البداية، ومصدر القرار، ومرتكز الإحالة، ومآل الإرادة، ومنطلق التبرير، وقاعدة التعليل.
يقول التاريخ:
"وقالوا له: أُخرج من بلدنا، والحقّ بمنجاتك من الأرض أغرَوا به، سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفّين على طريقه، فلما مرّ بين الصفّين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما ألا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموا رجليه (ص).. وكان إذا ازلفته الحجارة، قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه، فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون...".
هذه عينة من تاريخ استمر على هذه الشاكلة سنين طوالاً، حيث تكشف عن واقع عقيم، قاحل العطاء، يبعث على اليأس المطلق، لا يستمرئ أي مساس بعاداته وسننه وعقائده، وصاحب الدعوة غريب، تطارده شبهات السؤال المدروس والموهوم عن عقله وغايته وأمله. ولكنّ محمداً رسول الله، إنه نبيّ، وهو على ثقة صارمة بهذه المهمة الكونية الكبرى، وهو موعود بالنصر المؤزر؛ ولذا لم يأبه لهذا الصدود الجافي، ولم يرهن إرادته إلى علائم الواقع المنظور. لقد كانت ثقته بنبوته في مرتبة السبق على كلِّ شيء، ومقياس التعامل مع كلّ معطىً وكلّ نتيجة وكلّ موقف، ومن هنا، نفهم سر هذا الإصرار على مواصلة الصدع وديمومة الدعوة "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته...".
إنّ أصالة النبوة في ضمير محمد (ص) حقيقة واضحة، لأنّها لم تسمح لإغراءات المنظور أن يتغلب عليها، ولم توكل زمام قرارها إلى حكم هذا المنظور مهما كان صارخ القَسَمات، ولو خُلي محمد ونفسه المجردة، ربما استكان إلى معادلة الواقع الظاهر، ولكن هناك شيء زائد، ترامى بثقله الكوني في حنايا ضميره، فأزاح عنها إيحاء الواقع الظاهر. هذا الشيء هو النبوة، الواثق من عُهدتها إليه، والمطمئن إلى ابتلائه بمسؤوليتها، وبذلك ترسِّم بكلِّ جلاء أصالتها الجذرية في ضميره الصادق.►
المصدر: أصالة النبوة في حياة الرسول الكريم/ كتاب قضايا إسلامية معاصرة (26)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق