يقول الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) في وداع الشهر الفضيل: «فنحن قائلون: السلام عليك يا شهر الله الأكبر، ويا عيد أوليائه الأعظم. السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيّام والساعات. السلام عليك من شهر قرُبَت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرينٍ جلّ قدره موجوداً، وأفجع فقده مفقوداً، ومرجُوّاً آلم فراقه. السلام عليك من أليفٍ آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقبضاً فمضّ، السلام عليك من مجاورٍ رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب».
مَن كان له كلّ هذه الأجواء الروحية والعبادية السامية، حريٌّ بالمؤمنين المنتفعين ببركاته، والواعين لأهميّة منزلته، أن يسلّموا عليه، ويخاطبوه مخاطبة المستوحشين من فراقه، فهم على تمام العلم بما لهذا الشهر من فضيلة ومنزلة رفيعة عند الله تعالى، ففيه أبواب الرحمة مشرّعة، والشياطين مغلولة، وفيه يكون المرء أكثر قُرباً من ربّه، وأكثر التصاقاً به، فيدعوه ملهوفاً، ويتوجّه إليه مخلصاً موحِّداً، كأفضل ما يكون العبد في حالة العبودية والإخلاص. إنّه الشهر الذي يترك الألفة والأنس في النفوس، فهو يحاول تحريك المشاعر وتهذيبها وتزكيتها وتربيتها، بما يجعلها منطلقة في خطّ الله ورحمته ورضوانه. يتحرّك هذا الشهر بكلّ خيره وبركاته مع الإنسان كيفما توجّه، ويبقى الإنسان هو مَن عليه مسؤولية الانتباه والالتفات إلى ما في صُحبته من خيرٍ وَفير، والإقبال عليه، لننهل من معينه خيراً وبركة، وهذا ما يكون بإصلاح نفوسنا، وتطهيرها من الذنوب والآثام، وتحسين أخلاقيّاتنا، فلا نقول إلّا خيراً، ونسعى في سبيل صلة الأرحام، وبرّ الوالدين، ونشر المحبّة والرحمة بين الناس، وكفّ الأذى والظلم عن الآخرين.
هو الشهر الذي أحيا الآمال في القلوب، فدعاها إلى سلوك سبيل المحبّة والرحمة والعطاء، وهو الشهر الذي أحيا الآمال في النفوس، فدعا إلى أن تتحرّك في خطِّ مسؤولياتها، وهو الشهر الذي أحيا إنسانيّتنا، فدعانا إلى أن نتلمَّسها ونمارسها شعوراً طيِّباً وسلوك خير، وهو الشهر الذي أحيا فينا الآمال بأن نسمو بأرواحنا، فلا نسقطها في متاهات اللهو والشهوات والغرائز، وأن نرتفع معنوياً، فلا نقع في محذور الانحراف في دائرة الباطل والفساد والبهتان والغيبة والنميمة والعصبية والظلم، بل أن نرتفع بمدى انفتاحنا على طاعة الله وعبادته؛ هذه الطاعة والعبادة التي تفتح آفاقنا ومداركنا على كلِّ خيرٍ ونفع وسلام وطمأنينة واستقرار، تجعلنا ننفتح أكثر على توحيد الله تعالى والإخلاص له في حياتنا.
هو الشهر الذي أعطى الآمال فرصةً كبيرةً لتقترب من الواقع في ما يأمله الإنسان من السمو الروحي، والارتفاع المعنوي، والدرجات العُليا عند الله، وهو القرين الحبيب الذي يشعر الإنسان بالرابطة الوثيقة التي تربطه به، حيث يشعر بجلالة قدْرِه عند وجوده، لمعرفته بمواقع الحلال في خصائصه ومعانيه، كما يفجع بفقده عند زواله، لما يشعر به من فداحة الخسائر التي تترتّب على افتقاده، وهكذا تتلاحق صفة المرجوّ الذي آلم فراقه، والأليف الذي فتح للقلب نافذةً على الفرح الروحي عند إقباله، كما أغلق عنه أبواب الانفتاح عند إدباره، وتحرّك مع عناصر الشخصية الإسلامية في إيحاءاته ومواقعه وأفكاره، حتى بعث الرقّة في القلوب، وخفّف من ثقل الذنوب على النفس.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق