تيسير الزائد (كاتبة كويتية)
عندما نحاول أن نلتحق بدورة خارجية أو وظيفة جديدة يُطلب منا أن نحضر شهادة "لائق صحياً"؛ حتى يُسمح لنا بالانخراط في هذه الدورة أو هذا العمل، وللحصول على هذه الشهادة، نقوم بعمل عدد من الاختبارات، كاختبارات النظر والسمع والتنفس والدم التي تثبت لياقتنا الصحية، وفي النهاية عندما تُمنح لنا تلك الشهادة نشعر بالراحة والسعادة ونسارع لتسليمها لنحظى بما نريد.
ونحن في الأيام القليلة القادمة على وشك الالتحاق بمهمة ودورة ليست ككل الدورات، وسنمارس ركناً من أركان الإسلام، وهنا لن يُطلب منا أن نقدم شهادة "لائق صحياً"؛ ولكن نحن من سنطبقها على أنفسنا، والسبب أننا نرغب في أن نحصل على الشعور بالرضا عن النفس، آملين أن نفوز بفرحتي الصائم التي وُعد بهما، وحتى نحظى بما نرى، علينا أن نطيق على القلب والجوارح عدداً من الفحوصات لنرى مدى استعدادها لهذا الشهر الفضيل، بل ونصلح ما اختل منها طوال العام من أجل أداء أفضل وعبادة أكثر إتقاناً.
كل ما تحتاجه منك تلك الفحوصات والعلاج بعض الوقت، ولكن النتيجة كبيرة بإذن الله، فهل أنت مستعد لأن تمنح نفسك ومستقبلك بعض الوقت؟ إذن فلنبدأ معاً بدخول غرفة الفحص.
- عيادة القلب:
في محاضرة للأستاذ علي أبوالحسن قال جملة جميلة أحب أن أنقلها لكم، تلخص مفهوماً غاية في الأهمية قال: "إنّ الرسول (ص) جاء ليهدم أصنام الشعور قبل أن يهدم أصنام الصخور؛ حيث أمضى الجزء الأوّل من دعوته في تخليص الناس من صفاتهم الجاهلية وإبدالها بصفات أرقى"، وعرّف الأستاذ علي أبوالحسن صنم الشعور بأنّه: هو ما اعتاد الشخص على ممارسته حتى أصبح يمارسه دون شعور، ولا يستطيع الخلاص منه؛ فيُفقده حريته، كأن تقول مثلاً: أنا لا أستطيع أن أبدأ يومي أو أفكر دون كوب القهوة.
وهنا في غرفة الفحص لابّد وأن تعرض نفسك على جهاز فحص أصنام الشعور لديك.. هل هناك عادة استحوذت عليك وأفقدتك حريتك، وأصبحت عبداً لها، كتثبيط المتفائلين أو الحقد على أفكار الغير أو تتبع العورات؟ والنتيجة سرية جدّاً ولن يطّلع عليها غيرك.
الجهاز الثاني في غرفة الفحص: هو جهاز مهم أيضاً خاص بفحص أمراض القلوب، والتي منها:
النفاق، والرياء، ومرض الشبهة والشك والريبة، وسوء الظن، والحسد والغيرة، والكبر والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين والاستهزاء بهم، والحقد والغل، واليأس، والهوى ومحبة غير الله، والخشية والخوف من غير الله، والوسواس، وقسوة القلوب، والتحزب لغير الحق.
ونحن هنا فقط للفحص، أما إذا أردت التشخيص المفصل والعلاج الفوري فعليك التوجه إلى العيادات المتخصصة لمثل ذلك، وهذا تجده في الكثير من الكتب التي تتناول تعريف كل مرض وكيفية التعامل معه.
أمّا الجهاز الثالث فهو جهاز يعطيك نتيجة فحص شاملة عن القلب، ومعايرة هذا الجهاز تعتمد على تعريف وضعه المختصون عن سلامة القلب، ملخصها: إنّ "القلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، كما أنّه لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، ثمّ إنّه لا يحكم بغير شرع الله، ولا يعبد غير الله".
انظر إلى نتيجة الفحص، إذا وجدت خللاً ما فالعلاج بسيط وهو توبة نصوح إلى الله مع الدعاء أن يرزقك هذه التوبة.
وقبل أن تخرج من عيادة القلب، عليك أن تستمع إلى هذا الحديث عَن أبي هُريرة قال: قال رسول الله (ص): "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
- عيادة النظر:
الجهاز الأوّل في عيادة النظر يحدد لك النسبة المئوية لحسن استخدامك لعينيك وبصرك، من حيث غض البصر عن المحرمات، وقراءة القرآن، وتعلم العلم، وحضور الدورات، وتنمية الشخصية عن طريق القراءة والمشاهدة، وعلى أساس هذه النسبة حدد مدى استفادتك من عينيك وبصرك بالطريقة الصحيحة، وإلا ستحتاج إلى تقوية الجهاز المناعي ضد المغريات الخارجية، وتقوية همتك باستخدام عينيك بالبحث عن كل ما يؤدي لعلو الهمة.
في العيادة أيضاً جهاز حساس جدّاً يقيس درجة "التأمل في الكون للعين"، فبمجرد أن تضع عينيك ستعرف هل أنت من الذين ذكرهم الله في كتابه حيث قال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). أم أنك من الغافلين، فإذا سمعت أصواتاً غريبة تصدر من الجهاز، فاعرف أن عليك إعادة حساباتك مع هذا الكون، تأمل أكثر وتزوّد إيمانياً، فالتأمل عبادة العقلاء.
أما جهاز الكشف عن الغدة الدمعية فلا ترهق عينيك بالكشف عليه إذا كنت تعرف أن عينيك تدمع عند قراءة القرآن أو من خشية الله، أما إذا كنت غير ذلك فننصحك بهذا الكشف لتتعرف على السبب الحقيقي لقسوة العين.
جهاز "قوة العين": يحدد المرات التي استيقظت فيها ليلاً أو في الثلث الأخير من الليل لتصلي وتدعو الله بما تشاء، فإذ كانت هذه المرات قليلة أو معدومة فابدأ في وضع جدول تدريجي للتعود على القيام ليلاً، حتى ولو بدأت بدقائق قليلة قبل أذان صلاة الفجر.
- عيادة الفمّ:
كثيرة هي الأجهزة التي تعرضت لها، ولكن مثل تلك الفحوصات مهمة بين حين وآخر لنتعرف على درجة إيمانياتنا ونقيس قربنا أو بعدنا عن الطريق الصواب.
ومن الاختبارات المهمة التي ستمر بها أثناء الفحص هو جهاز قياس الطريقة السليمة لاستخدام فمك ولسانك، سواء في دعاء، أو ذكر، أو شكر لله، أو كلمة طيبة، أو في الأكل من حلال، وقد قيل: إن من علامة محبتك لله أن تكثر من ذكره.
وفي شرح لـ د. محمد راتب النابلسي عن الذكر قال: "هذا الذكر يسمى في البرمجة اللغوية العصبية التكرار الكثيف، أحياناً إذا كررت شيئاً بكثافة تتعلق به، وتقبل عليه".
ومن أوّل الجوارح التي تدعو وتذكر وتشكر اللسان، عن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
والآن، انظر إلى الجهاز واقرأ درجة استهلاك لسانك في الذكر والدعاء والكلمة الطيبة والشكر؛ فإذا كانت أقل مما تطمح إليه دوام على الذكر وشكر النِّعَم، وتعلم كيف تتحكم في كلماتك قبل أن تخرج وتصبح أنت أسيرها، وارفع يدك وابتهل إلى خالقك ليرزقك حسن الدعاء وحسن العمل.
ابدأ يومك بأذكار الصباح واختمه بأذكار المساء، تعهد فمك بالنظاقة الحسية والمادية، واطمح دائماً بدرجة عالية عند الكشف على جهاز الفم، وتذكر قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) (إبراهيم/ 24-26).
- عيادة السمع:
أوّل نصيحة يوجهها لك الطبيب المختص بالأذن، هي عدم إدخال جسم صلب داخل أذنك حتى لا يتلفها، ربما لدرجة لا يمكن إصلاحها، بل هذه النصيحة كثيراً ما نكررها على أبنائنا خوفاً من أن يقوموا بذلك ويؤذوا جهاز السمع لديهم.
وكما أن هناك أثراً سلبياً من الجسم المادي للأذن، هناك أثر سلبي لبعض الكلمات والجمل التي يمكن أن تؤذينا وجهاز السمع لدينا.
وحتى لا ترهق نفسك بالكشف عن مستوى السمع لديك، وجه لنفسك هذه الأسئلة قبل أن تستمر في سماع شيء معين:
ما فائدة ما أسمعه؟ وهل يؤذينا سماعه؟ وما هو الأفضل أن أسمعه؟
والأذن أمانة لديك فانظر كيف تعتني بتلك الأمانة (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36).
وحاذر من مسألة مهمة وهي: "فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنّى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه".
- عيادة اليد والقدمين:
جهاز العيادة لن يقيس درجة هشاشة عظامك، ولكن سيقيس مدى هشاشة عطائك وحنانك، ولن يقيس قوة قبضة يدك، ولكن سيقيس قوة البذل لديك ومساعدتك للآخرين، لن يقيس عدد الخطوات التي يمكن أن تمشيها في الدقيقة، ولكن سيقيس خطواتك نحو المساجد ونحو عمل الخير ونحو عملك الذي تحرص على أدائه في وقته وبإتقان، سيقيس عدد المرات التي ذهبت فيها لتبرّ والديك وتصل رحمك وتعود مريضاً وتواسي مكروباً وتجيب دعوة لأخيك.
إذا كنت غير متأكد من نتيجة الفحص فأجّله حتى تعيد ترتيب خطواتك وطريقة حياتك من أجل نتيجة أفضل.
كل الأجهزة السابقة موجودة في داخلك، داخل ضميرك، نفسك اللوامة، حاول أن تستعملها بين الحين والآخر لتقييم أدائك في هذه الدنيا قبل ألا يصبح للتقييم أيّة فائدة.
"اللّهمّ بارك لنا في رمضان، وارزقنا فيه من الصالحات ما يرضيك عنا، واجعلنا فيه من عتقائك من النار، اللّهمّ إنا نسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لنا وتتوب علينا وتحسن خاتمتنا، آمين".
ارسال التعليق