أسرة
بعث الله تعالى الأنبياء (ع) ليقوم الناس بالقسط، والقسط هو العدالة الإجتماعية والسياسية والإقتصاديّة، لأنّ العدل هو حياة الأحكام ودستور المجتمع الصالح.
ولمّا كان المال قوام الحياة الإنسانية، فقد اهتمّ الإسلام بمسائله وتوجيه وتعديل حركته في أيدي الناس وفي الأسواق اهتماماً بالغاً، فلقد حرّم كل ألوان الظلم والطغيان الإقتصادي ضمن برنامج مالي شامل، وصولاً إلى العدالة الإقتصادية المرجوّة، ورفضاً لأشكال التبعية الإقتصادية، وعملاً بمبدأ التكافل الإجتماعي، ولذلك كانت مقولة القرآن الكُبرى في هذا المجال، هي: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90)، وما يهمّنا في هذا المقطع من البحث هو الطابع الإجتماعي للمال في حياة المجتمع الصالح الذي يصون كرامة الإنسان في دمه وماله وعرضه، منطلقين من أصالة مبدأ القسط والعدل.
1- المال أمانة الله عند الناس:
قال تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور/ 33).
لما كان الإنسان مالك المال ملكيّة اعتبارية ملكاً لله تعالى (إنّا لله)، فإنّه وما يملك لله أي أنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه، وملكيّة الإنسان للأشياء والأموال والأمتعة ملكية مجازية توكيلية، بحسب ما أعطاه الله له وجعله في يده، وعلى ضوء هذه النظرة فإنّ الأموال وسائر الثّروات ما هي إلا ودائع وأمانات عند الإنسان، ويُطلق عليها في بعض الروايات بـ(العارية)، أي أعارها الله للإنسان، متى ما شاء استردّها. يقول سبحانه: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7).
وبلحاظ الاستخلاف والأمانة، تكون حصّة المجتمع – فيما أشارَ إليه القرآن من أنصبة الزكاة وغيرها – مكفولة، لأنّ كل إنسان في المجتمع الصالح يستحضر قوله تعالى: (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج/ 24-25)، ويتفاعل معه، ويتذكّر قوله سبحانه: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92)، ويتعاطى معه بإيجابيّة.
2- حماية المال من السفهاء:
قال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء/ 5).
أيّ توظيف غير سليم للمال هو سفاهة، فالمجتمع مُطالَب بسلامة تداول الأموال وعدم التفريط بها في السّفاسف والتّرّهات والأعمال غير المشروعة والإسراف، لأنّ الثروة المالية طاقة من طاقات بناء المجتمع وتطويره، وأي هدرٍ لها تضييع لفرص البناء والنماء، ولذلك فالمال مسؤوليّة ويجب أن يُحمى ممّن لا شعور لديه بالمسؤولية.
يقول الإمام الصادق (ع): "إنّ من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام، أن تصبر الأموال عند مَن يعرف فيها الحقّ ويصنع المعروف، وأنّ فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي مَن لا يعرف فيها الحق ولا يصنع فيها المعروف"!
3- الكسب المشروع:
قال تعالى: (وَرزقاً حَسَناً) (النحل/ 67).
وقال سبحانه: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك/ 15).
جاء (الرِّزق الحسن) في القرآن في مقابل (الكسب غير المشروع) أو المُحرّم، كصنع المسكرات من التمر والعنب. والرزق الحسن هو كل كسب حلال أراد الله للإنسان أن ينتفع به بيعاً وشراءً ومتاجرةً واستيراداً وتصديراً، وهو من حيث المساحة أوسع نطاقاً – بما لا قياس معه – من المكاسب المُحرّمة، ولا يصلح مجتمع تنتشر فيه أمثال هذه المكاسب، بل لعلّها سبب من أسباب انهياره وتدهور أخلاقه وطغيانه واستكباره، وفي كلمة (من رزقه) في الآية من سورة الملك دلالة أو إشارة إلى الانتفاع بالرِّزق الحسن الحلال المشروع، وإلا ما كان نسبه تعالى إلى نفسه، فضلاً عمّا تندب إليه الآية من التسبّب والكسب وعدم الإتِّكال والتواكل.
سُئل النبي (ص): "أيّ كسب الرجل أطيب؟ قال: عملُ الرجل بيده، وكلُّ بيعٍ مبرور".
4- المُحافظة على المال العام:
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء/ 58).
أموال الدولة أو ما يُسمّى بالمال العام، هو حقّ المواطنين، فلا يجوز التجاوز عليه بأيّة حيلةٍ أو أيّ عنوان، فلقد دخل (عمرو بن العاص) ليلةً على الإمام علي (ع) وهو في بيت المال، فطفئ السِّراج وجلس في ضوء القمر، ولم يستحلّ أن يجلس في الضوء (ضوء السراج) من غير استحقاق، خاصّة بعد أن علمَ أنّ عمرو بن العاص أتاهُ في موضوع لا يخصّ بيت المال، ولذلك تجد بعض الصالحين يدفع شيئاً من المال لقاء استفادته من المال العام كبراءة ذمّة، بل يُقدِّم التعويض لأي تلفٍ أو ضياعٍ كان هو المُتسبِّب فيه.
5- الإقتصاد في المعيشة:
قال تعالى في صفة عباد الرّحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).
الإقتصاد في المعيشة يعني التجمّل في حالي التقتير والإسراف، وبمعنى آخر فإنّ الإقتصاد لا يعني البخل، وإنّما هو (حُسن التدبير)، لأنّه الحسنة بين السيِّئتين، وهو ممدوح فردياً، وكما في قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).
كما هو ممدوح جماعيّاً بحسب الإشارة الواردة في الصفات الحميدة لعباد الرحمن الذين يُمثِّلون (المجتمع الصالح).
وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) مقولته الإقتصادية المهمة في هذا الباب: "ضمنتُ لمن اقتصدّ أن لا يفتقر". ولذلك تحرص بعض الدول البتروليّة اليوم أن لا تستنفذ جميع مخزونها النّفطي أن مدخراتها المعدنيّة رعايةً لحصّة الأجيال القادمة فيه. وأثِرَ عن الإمام علي (ع) قوله: "التدبير نصف العيش". وفي المحصِّلة، فإنّ الإقتصاد في المعيشة، أو الحكمة في الإنفاق، أو الإعتدال في الإستهلاك، يُحقِّق للمجتمع مصلحة عُليا في الإبتعاد عن الإبتلاء بالفقر والحاجة، وهذا ما يرسمه القرآن الكريم لأيّ مجتمع صالح من خلال ما فعلهُ يوسف (ع) من توفير وإدِّخار لوقت الحاجة. قال عزّ وجل: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف/ 47).
ولقد شكا قوم للنبي (ص) سرعة نفاد طعامهم، فقال: "تكيلون أو تهيلون"؟ قالوا: نهيل يا رسول الله (يعني الجزاف)، قال: "كيلوا، فإنّه أعظم للبركة"!
فلقد دعا إلى الإدِّخار في وقت الرخاء حتى لا تضرّ بمجتمعه سنوات القحط والجدب والجفاف.
6- مكافحة الإحتكار وارتفاع الأسعار:
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34).
فكرّر القول مجدّاً بأنّ المجتمع الصالح لا يعني بالضرورة أنّ كل أفراده صالحين، لكنّ النسبة الغالبة فيه أو أكثريّته هم ممّن يتمتع بصفة الصلاح، وذلك فتوقع وجود المحتكرين أو المستغلِّين أو الغشّاشين أو المرابين أو المتلاعبين بالأسعار في مجتمعات الصلاح أمرٌ وارد، ولذلك كان من بين أهمّ واجبات ومهام الحاكم الإسلامي مجابهة الإحتكار والرّقابة الدائمة على الأسعار.
يقول الإمام علي (ع) في عهده لـ(مالك الأشتر):
"ثمّ استوصِ بالتجّار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً، واعلم مع ذلك أنّ في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنع من الإحتكار، فإنّ رسول الله (ص) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تُجحف بالفريقين، من البائع والمبتاع، فَمَن قارفَ حُكرة بعد نهيك إيّاه فنكِّل به، وعاقِبهُ في غير إسراف"[1].
7- القرض الحسن:
قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد/ 11).
عالجَ المُشرِّع الإقتصادي الإسلامي مشكلة (الرِّبا) معالجةً أخلاقيّة إنسانيّة بطرحه لمفهوم (القرض الحسن) في قبال القرض الضار السيِّئ والمُسيء، وهو الربا كونه إقراضاً بفائدة، والحال أنّ القرض الحسن بفائدة أيضاً، ولكنّها ليست من المُستقرِض أو المُستدين، بل من الله تعالى الذي جعل الحسنة بعشر أمثالها والقرض الحسن بثمانية عشر. ولقد طابت نفوس المسلمين كمجتمع صالح لهذا الإجراء المالي أو الإقتصادي الذي نزع فتيل الأحقاد، وجفّف ينابيع الإثرة والتكاثر وامتصاص عرق الفقراء واستنزاف أموالهم. قال عزّ وجل: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (التغابن/ 17).
ورُوي أنّه لمّا نزلت الآية من سورة الحديد، قال (أبو الدّحداح الأنصاري) للنبي (ص): "إنّ الله ليريدُ منّا القرض؟ قال: نعم قال: قد أقرضتُ ربِّي حائطي (بستاني) وكان له فيه مئة نخلة، فلمّا أخبر زوجته بما فعل، قالت: ربح بيعك أو بيعٌ ربيح"!!
8- تفتيت التّركة:
قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (النساء/ 11-13).
لا يريد الإسلام تجميد المال أو تخثيره، بل يسعى إلى تسييله وتدويره حتى تنشط حركته في واقع المجتمع الصالح ويعمّ نفعه الصالح العام، ولذلك عمد إلى تفتيت تركة الميِّت أو ميراثه بين أهله وأقربائه من منطلق الفريضة الواجبة بما حدّده المُشرِّع الإسلامي من حصص وأسهم وأنصبة في الأقربين من أهله، فإن لم يكن له والد ولا ولد، وُزِّعت تركته في أقربائه البعيدين، ولقد رأى في تفاوت الحصص مقدار حاجة كلّ ما الورثة ذكوراً وإناثاً بما لا يُخالف روح الشريعة في العدل والإحسان، بل ندبَ إلى إشراك أقرباء الميِّت من الفقراء واليتامى والمساكين ممّن يحضرون قسمة التّركة ليعطوا شيئاً منها تطييباً لخاطرهم، كلّ ذلك من أجل الشعور بامتداد العلاقة الإنسانية بين الراحل وبين أولئك الناس، قال سبحانه: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا * وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا *إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء/ 7-10).
...............................................................................
[1]- نهج البلاغة، كتاب الإمام علي (ع) لمالك الأشتر.
ارسال التعليق