أسرة البلاغ
◄في ربيع الأوّل، وُلِدَ المصطفى (ص) في مكّة المكرّمة، وشاء الله أن يولد يتيماً، فقد توفِّي أبوه عبدالله بن عبدالمطلّب في طريق عودته من تجارة الشام، وهو لا يزال جنيناً في رحم أُمّه آمنة بنت وهب .
وعلى عادة أهل مكّة، أُرسل محمّد (ص) مع حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية إلى البادية لرضاعته، وقد لقيت حليمة من رضيعها محمّد (ص) الخير الكثير.
عندما بلغ المصطفى (ص) الخامسة من عمره، عادت به حليمة السعدية إلى مكّة، حيث وجد في جدّه عبدالمطلّب خير راع له، إذ وفّر له كلّ ما يتطلّب من حنان فيّاض وعطف أبوي غامر، فكان يشدِّد على العناية به أكثر من عامّة أهله وبنيه.
في السادسة من عمره الشريف، ذهبت به أُمّه بصحبة أُمّ أيمن، لزيارة أخواله بني عدي بن النجّار في يثرب (المدينة المنوّرة)، فمكثوا هناك شهراً ثمّ قفلوا راجعين إلى مكّة، وفي الطريق وافت المنيّة أُمّه، فدُفنت في الأبواء، وهي قرية بين مكّة ويثرب.
عادت به أُمّ أيمن إلى جدّه، حيث اضطلعت هي بدور الأمومة، مثلما اضطلع جدّه بدور الأُبوّة، وشاء الله أن تختطف يد المنون الجد الحنون عبدالمطلّب فيتوّفى والمصطفى في السنة الثامنة.
فتولّى رعايته عمّه أبو طالب الذي عامله بالحبّ والعطف والرعاية الأبوية الفائقة، بشكل لم يحظ به أحد من أبنائه قط، فكان ينام في فراش عمّه، ويجلسه إلى جنبه، ويأكل معه، ويخرج معه إذا خرج من داره، وغير ذلك من ألوان الرعاية وصور الحنان النادرة النظير.
كان محمّد (ص) يكبر في كنف عمّه، وكانت تكبر معه أخلاقه السامية حتى تميّز من بين مجتمعه بالصِّدق والأمانة، والاستقامة وكرم النفس، فصارت ميزة له دون سواه، وعُرِفَ بين الناس بـ(الصادق الأمين).
باشر المصطفى (ص) العمل، وهو فتىً، فكان رعيُ الغنمِ أوّل عمل مارسه، ثمّ سافر مع عمّه أبي طالب للتجارة إلى الشام، وعندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره الشريف، ذهب بتجارة إلى الشام لخديعة بنت خويلد (رض).
كانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، وأحسنهنّ جمالاً، وكانت تُدعى في الجاهلية بـ(الطاهرة) ويُقال لها سيِّدة قريش، وحين ذاع صيت المصطفى (ص) بين الناس، عرضت عليه أن يخرج لها بتجارة إلى الشام، وضاربته بأجر أكثر من سابقيه من الرجال، فخرج في قافلة لها بصحبة غلامها ميسرة، فعادا بربح وافر.
راح ميسرة يحدّث خديجة عن أخلاق محمّد (ص)، فوقع في نفسها حبّ الرسول (ص)، واختارته لأن يكون لها زوجاً، وكانت قد رفضت عظماء قريش.
تزوّج الرسول (ص) خديجة، وحقّقا أروع تلاحم عاطفي، معطّر بالودّ والوفاء والرحمة، ورسما أجمل صورة للحياة الزوجية الناجحة.
وقد ظلّ الرسول (ص) طوال حياته يُثني عليها، ويذكر مآثرها أمام زوجاته، حتى قالت عائشة: "ما غرتُ على نساء النبيّ (ع) إلّا على خديجة، وإنِّي لم أدركها" .
في غار حراء:
كان محمّد (ص) ينقطع في غار حراء أيّاماً معلومة، وشهراً متواصلاً في كلّ عام، يقضي أوقاته بالعبادة والتأمّل والانقطاع لربّ العالمين، بعيداً عن أجواء الجاهلية ومفاسدها، في جوٍّ خاص من الإعداد الإلهي، لحمل الرسالة العظمى.
واستمرّ النبيّ (ص) على عبادة الله تعالى في غار حراء حتى بلغ الأربعين من عمره الشريف، إذ نزل عليه جبريل (ع) بالوحي، تالياً عليه آيات القرآن الكريم، ليكون خاتم النبيين، وأوّل ما تلي عليه:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5).
وهكذا تلقّى الرسول (ص) أوّل كلمات الوحي الذي كان ينتظره، ليحمل إلى البشريّة مشعل النور والهداية.
وكانت البشائر التي ذكرتها الكتب السماوية السابقة، كالتوراة والإنجيل، تنبئ بقرب مبعث رسول الله (ص)، والأحاديث تلفُّ الجزيرة عنه، وعلماء أهل الكتاب يقرأون في كتبهم عن اقتراب بعثة نبيّ جديد يملأ الدُّنيا نوراً وهداية وبركة، ورغم التحريف والتغيير الذي لحق بهذه الكتب، إلّا أنّه لا زال فيها بعض هذه الأخبار، منها ما جاء في إنجيل يوحنا:
(إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزياً – بارقليط – آخر ليمكث معكم إلى الأبد).
وكلمة المعزّي، هي ترجمة محرّفة للكلمة (بير بكليتوس) اليونانية، وهي تعني في ترجمتها الدقيقة (أحمد) اسم النبيّ الكريم .
البعثة النبويّة:
عاد النبيّ محمّد (ص) إلى داره حاملاً مشعل الخير والهدى والخلاص للعالمين، واضطجع في فراشه ليأخذ قسطاً من الراحة، وفي تلك اللحظات كان النداء الثاني من الوحي الإلهي:
(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر/ 1-5).
إنّه نداء الانطلاق بالرسالة، والتبشير بالدِّين الجديد، وحمل الدعوة الإلهيّة إلى الناس، فما كان من رسول الله (ص) إلّا أن صَدَعَ بالأمر، فبادر إلى إعلام عليّ بن أبي طالب (ع) الذي لم تدنِّسه الجاهلية بدَنَس، ولم يسجد لصنم قط، فقد كان يعيش في كنف الرسول (ص) وفي بيته، فلبّى دعوة الله، وعانقت روحها روحه.
وعرض الرسول (ص) دعوته على زوجه خديجة، فلبّت نداءه وآمنت برسالته، وبذلك تشكّلت نواة المجتمع المؤمن المتيقّن في الأرض، من محمّد وعليّ وخديجة.
وراح (ص) يدعو سرّاً مَن يتوسّم فيه الاستجابة، فازداد عدد المؤمنين بهذه الرسالة، ولكي يتحقّق إعداد الطليعة كان الرسول يعلِّمهم القرآن وأحكام الرسالة، كما كانوا يقيمون الصّلاة في الشعاب بعيداً عن أعين الرقباء.
ولمّا كثر عدد المؤمنين به، وخشوا أن ينكشف أمرهم، اتّخذوا من دار الأرقم المخزومي مقرّاً للتعليم والإعداد والعبادة.
مضت على هذا اللون من الدعوة إلى الإسلام ثلاث سنوات، فبدأت قريش تتحسّس حركة الدين الجديد، وفي تلك الأثناء أمرَ الله تعالى رسوله الكريم أن ينذر الأقربين من عشيرته، وكان عدد المؤمنين قد بلغ الأربعين رجلاً:
(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (الشعراء/ 214-216).
دعا الرسول (ص) عشيرته إلى طعام، وما أن تأهّب للحديث حتى قاطعه عمّه أبو لهب، وحذّره من الاستمرار في الدعوة، فانفضّ المجلس من غير أن يباشر الرسول (ص) دعوته لقومه.
ومضت أيّام، فدعا رسول الله (ص) عشيرته مجدّداً، وبعد أن فرغوا من الطعام، بادرهم بقوله:
"يا بني عبدالمطلّب! إنّ الله بعثني إلى الخلق كافّة، وبعثني إليكم خاصّة، فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)، وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللِّسان، ثقيلتين في الميزان: شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر، ويؤازرني عليه وعلى القيام به، يكن أخي ووصيِّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي..." .
فيقف عليّ بن أبي طالب (ع) وكان أصغر الحاضرين سنّاً، ليدوِّي صوته: "أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر".
فيأمره الرسول (ص) بالجلوس، ويكرّر دعوته، فلم يجبه غير عليّ (ع).
ويعيد الرسول (ص) دعوته على قومه، وللمرّة الثالثة يدوِّي صوت عليّ (ع) ملبّياً دعوة الرسول (ص)، وعند ذاك يلتفت إليه رسول الله (ص) قائلاً: "إجلس، فأنت أخي ووصيِّي ووزيري ووارثي وخليفتي مِن بعدي".►
ارسال التعليق