◄نحن لا نستطيع أن نفهم كنه الحياة الإنسانية، لأنّ الحياة الحيوانية لا تزال عصيّة الفهم فما بالك بهذه الحياة الأكثر تطوراً وتعقيداً. غير أننا نستطيع أن نفهمها من خلال تلمّس آثارها.
من هذه الآثار: الوعي والتحرك.
كلما ازداد وعي المجتمع وروح الحركة والاندفاع فيه كان أقرب إلى الحياة، وكلّما هبط عنده الوعي وخمدت فيه روح التحرك كان أقرب إلى الموت.
كلمة "الحي" ترد في القرآن لتفصح غالباً عن معنى العلم والقوة. فالقرآن يصف الله بالحي: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم".
و"الحي الذي لا يموت". والحياة هنا لا تعني طبعاً الحياة البيولوجية بل تعني العلم المطلق والقوة المطلقة.
هذا المفهوم نستطيع أن نتخذه معياراً لفهم ما هو من الإسلام وما هو دخيل عليه. كلّ ما من شأنه أن يقف بوجه تصاعد وعي المسلمين وقدرتهم وقوتهم فليس من الإسلام شيء، لأنّ الإسلام دين الحياة، ودين الحياة لا ينسجم مع الجهل والعجز والضعف.
والآن لنلق نظرة على أوضاعنا الراهنة انطلاقاً من المفهوم السابق لنرى مقدار ما فينا من حياة. هل نحن ننظر بعين الاحترام إلى السكوت أم إلى الحركة؟ والجواب على هذا السؤال مهم للغاية لأنّ المجتمع كلّما مال إلى السكون يزداد احترامه إلى كلّ ما هو راكد وساكن.
لاشكّ أنّ المنطق السائد بيننا هو منطق احترام الساكن الجامد، وهو مظهر انحطاط المجتمع وموته. أحد الأخوة الظرفاء أطلق على هذا المنطق اسم "منطق الماكنة البخارية".
سبب هذه التسمية يشرحها هو إذ يقول:
في أيام الصبا كنت أذهب إلى محطة القطار (وكانت السكك الحديدية حديثة التأسيس آنذاك) فأرى القطار واقفاً والأطفال مجتمعون حوله ينظرون إليه باحترام وإجلال. ويبقى المتفرجون الصغار على حالتهم هذه حتى يبدأ القطار بالحركة، وما إن يتحرك حتى يسارع الأطفال إلى التقاط حجر ليرموا به القطار. وهكذا يزداد رشق القطار بالحجارة كلما ازدادت سرعته!!
لقد كنت أعجب من هذه الظاهرة وأسائل نفسي لماذا يميل هؤلاء الأطفال إلى احترام القطار مادام واقفاً؟ ولماذا ينعدم هذا الاحترام عندما يشرع القطار بالتحرك؟!
عندما كبرت ودخلت المجتمع اكتشفت اللغز، ألفيت أنّ هذه الظاهرة قانون عام يسود كلّ المجتمعات التي افتقدت الحياة. كل شيء في نظر هذا المجتمع يحظى بالاحترام والتجليل مادام ساكناً، فإذا تحرك يتخلّى عنه الناس، بل أكثر من ذلك يلقمونه بحجر من كل حدب وصوب. أما المجتمع الحيّ فلا يحترم إلا الوثّاب المتحرك والمتيقّظ.
الأثر الآخر من آثار الحياة في المجتمع الترابط والتضامن بين أفراده. هذا الترابط يزداد كلما كانت روح الحياة نابضة أكثر في المجتمع. غير أنّ هذا الترابط يتجه نحو الوهن والضعف مع اتجاه المجتمع نحو الموت.
هذا المؤشر هو الآخر يعيننا على فهم مقدار ما في المجتمع من حياة، ويمنحنا معياراً لفهم وضع عالمنا الإسلامي المعاصر المفعم بالنزاعات والحروب والاختلافات الداخلية، والمنقسم على نفسه إلى أجزاء يتجاذبها أعداء الإسلام ويساومون عليها. هذا المعيار يوضّح لنا بجلاء أنّ المجتمع الإسلامي بشكل عام مجتمع ميّت.
دعوة الإسلام تتجه أوّل ما تتجه إلى إيجاد المجتمع المترابط المتكافل المتضامن، ومن هنا فهي دعوة إلى الحياة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/ 24).
والمجتمع الإسلامي الواقعي مجتمع حيّ لأن أفراده مرتبطون مع بعضهم ارتباطاً عضوياً وثيقاً:
"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى".
هذه الحمّى التي تظهر في البدن ليست عملية مواساة فحسب بل هي عملية نفير سائر الأعضاء لمواجهة العدو الذي هاجم العضو المصاب ولترميم ما أصاب هذا العضو من أضرار.
أين المسلمون اليوم من هذا الترابط العضوي؟! هل العالم الإسلامي ينهض اليوم بأجمعه إذا تعرّض أحد أجزائه لعدوان؟!
من المظاهر الأخرى للمجتمع الحي تكريم شخصياته الفكرية، وأقصد الشخصيات الحيّة التي تعيش في المجتمع بالدرجة الأولى، لأن تكريم الأموات قد لا ينمّ عن ظاهرة حياة. أحد الأصدقاء طرح عليَّ سؤالاً طريفاً قال فيه: أليس تكريم إقبال من مظاهر التقرّب من الأموات؟ هذا الصديق لا يعترض طبعاً على هذا التكريم، بل يقصد أنّ التكريم ينبغي أن يتجه أوّلاً إلى الشخصيات الفكرية الحيّة.
الصفة الأخرى للمجتمع الحي ارتباطه بتاريخه الثوري، فالارتباط بهذا التاريخ وبالأفراد الذين صنعوه بدمهم يؤكّد أنّ المجتمع حيّ أبّي الضيم لا ينثني أمام ما يواجهه من تحديات وصعاب.►
المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد الخامس لسنة 2007م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق