د. علي الحمّادي
◄على الإنسان أن يؤدي حق نعم الله عليه بتوظيفها في وجوه الخير والنفع العام
من الذي يُمكنه قيادة الآخرين والتأثير فيهم وصناعة الحياة وإحداث طفرات نوعية في واقع الناس؟
هل هم أصحاب الشهادات العليا؟ أم هم أصحاب المناصب والجاه والمستويات الاجتماعية الرفيعة؟ أم هم ذوو المال ورجال الأعمال؟ أو ربما هم أصحاب الأجسام القوية والوجوه الوسيمة الجميلة؟ أم أنهم أولئك الذين صقلتهم الأيام وحنكتهم التجارب؟ أم قد يكونون هم الأذكياء والعباقرة والأفذاذ؟ أم غيرهم؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال نود الإشارة إلى أنّه ما من إنسان إلا ويتمنى أن يكون شيئاً مهماً في هذه الحياة، ولو أنك جئت إلى صعلوك لا قيمة له في الحياة وقلت له: يا صعلوك أو يا تافه، لسبَّك وشتَمك، ولو ناديت جاهلاً قابعاً في ظلمات الجهل وقلت له: يا جاهل، ربما صفعك على وجهك صفعة أطارت الشرر من عينيك، ذلك لأن أمنية كل إنسان أن يكون له وزن في دنيا الناس.
النقاط السبع:
إنّ الإجابة عن السؤال سالف الذكر تحتاج منا إلى توضيح وتدليل، أما التوضيح ففي النقاط السبع التالية:
أوّلاً: إنّ الله قد يهب بعض الناس نعمة أو نعماً كثيراً مثل: الوجاهة، والعلم، والمنصب، والمال، والذكاء، أو غير ذلك، وكلما زادت هذه النعم، كان لزاماً على الإنسان أن يؤدي حقها، وحقها بإنفاقها لا بحبسها، أي باستخدامها لما فيه النفع للآخرين.
ثانياً: كل نعمة من النعم سالفة الذكر قد يكون لها تأثير إيجابي كبير في تمكين صاحبها وزيادة تأثيره في الحياة، لذا يحسن بالعاقل استثمارها، وإلا فهي كنوز كامنة معطلة ينظر إليها صاحبها ولا يتذوق حلاوتها.
ثالثاً: كثير من الناس لا يمتلكون الدافعية الذاتية التي يُمكنهم بها تفجير طاقاتهم وتسخير إمكاناتهم لتحقيق واقع مُشّرف لهم ولأمتهم وفي هذا يقول شوقي:
شباب قنع لا خير فيهم *** وبورك في الشباب الطامحينا
رابعاً: إنّ النجاح الحقيقي الذي يحق لصاحبه الافتخار به هو ذلك النجاح الذي صنعه صاحبه ببذله وجهده وطول عنائه، أما الذي يفخر بأمجاد آبائه وأجداده التي ولت وهو لا يصنع شيئاً ولا يستكمل هذه الأمجاد أو يضيف إليها ما يحفظها ويرفعها، فهذا مسكين يستحق الرثاء والشفقة.
خامساً: إن من عدالة الله عزّ وجلّ في خلقه أنّه لم يجعل الغلبة والقيادة والتأثير وصناعة الحياة حكراً على فئة من الناس دون غيرها، وإنما رفع أناساً لم يكن لهم ذكر، وأعز أقواماً لم يكونوا سادة القوم، وقدم نفراً من الناس كانوا في المؤخرة، وأخرج من بين الضعفاء أئمة وقادة، كما قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص/ 5).
سادساً: إن أسوأ ما يُبتلى به المرء أن يُصاب بعقدة النقص، فيشعر أنّه غير مؤهل للتأثير وصناعة الحياة، وأنّه ناقص، ولا يمكن له استكمال نقصه وسد ثغراته، فيشعر بالدونية، ويتبادر إلى ذهنه دائماً أن غيره أكمل منه وأقدر على قيادة الحياة، ولذا تراه منطوياً على نفسه، منكسراً في ذاته، مكبلاً بأوهامه، عاجزاً عن فعل أي شيء حتى لو كان بإمكان فعله:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً *** كنقص القادرين على التمام
سابعاً: إنّ صناعة التأثير إنما تنبع من ذات الإنسان مهما كانت مؤهلاته الأكاديمية، أو قدراته العقلية، أو منصبه الوظيفي، أو مستواه الاجتماعي، أو خبرته الحياتية، أو جنسه، أو كبر سنة، أو إمكاناته المادية أو غير ذلك. إن أمثال هؤلاء النفر لا يقر لهم قرار ولا تهنأ لهم حياة حتى يجدوا أنفسهم في المقدمة، ويروا تأثيرهم قد بلغ الآفاق، ونفعهم عم هنا وهناك، بل وبصماتهم نقشت في واقع الناس، إذ إن "لكل إنسان وجود وأثر، ووجوده لا يغني عن أثره، ولكن أثره يدل على قيمة وجوده".
بعد النقاط السبع سالفة الذكر أجد نفسي بحاجة إلى أن أدلل على ما قررته في النقطة السابعة، وهي أن صناعة الحياة والنهوض بالأمم والمجتمعات يمكن أن يسهم فيه – بل يتصدره – كل إنسان احترم قدراته، واعتنى بنفسه، وارتفعت همته، وعلت طموحاته، مهما كانت نواقصه وكثرت ثغراته، فالأمر فيه سعة ولا يحق لنا تضييقه أو تحجيمه، وإليك بعض الأدلة والشواهد التاريخية والواقعية التي أرجو بطرحها زيادة الاطمئنان بأنّه في إمكاننا جميعاً صناعة شيء مؤثر في هذه الحياة.
الماء والإمكانات المادية:
كم سمعنا عن أناس كانوا لا يملكون شيئاً ثمّ أصبحوا بعد سنوات من كبار الأغنياء، أو من سادة الناس، وكم رأينا من وزراء ومدراء كانوا قبل سنوات خدماً في بيت أو مؤسسة لا يكاد راتب أحدهم يفي بحاجاته الضرورية، وهذا الأمر حدث عبر التاريخ، وهو اليوم واقع يعيشه الناس ويعرفون أصحابه.. يذكر لنا التاريخ أن محمد المهلبي كان فقيراً معدماً لا يملك قوت يومه حتى أنّه سافر ذات مرة فقال:
ألا موت يباع فأشتريه *** فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي *** يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد *** وددت بأنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر *** تصدق بالوفاة على أخيه
فقام صاحب له ورثى لحاله وأعطاه درهماً، ثمّ تمر الأيام ويغتني المهلبي بنفسه ويجتهد ويترقى في المناصب حتى أصبح وزيراً، وضاق حال رفيقه "الذي أعطاه درهماً" فأرسل رقعة إلى محمد المهلبي كتب فيها:
ألا قل للوزير فدته نفسي
مقالاً مذكراً ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش
ألا موت يباع فأشتريه؟
فأعطاه المهلبي سبعمائة درهم ثمّ كتب تحت رقعته قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 261)، ثمّ قلده عملاً يسترزق منه.
ترى هل ركن المهلبي إلى فقره ورضخ إلى حاله البائس؟ أم أن نفسه التائقة إلى السمو دفعته كي يكون شيئاً مؤثراً له قيمة ووزن في هذه الحياة؟.. إن فقره وضيق حاله لم يمنعاه من المساهمة في صناعة الحياة وإحداث التأثير الذي أراده هو لنفسه.
الوجاهة والمنصب والمستوى الاجتماعي:
لم يكن الحسن البصري من سادة الناس وإنما كان من الموالي، لكنه صار بعد ذلك سيد البصرة في زمانه، حتى أنّ الحجاج بن يوسف الثقفي لما دخل البصرة قال: من سيد البصرة؟ قيل له: الحسن البصري، فقال: كيف ذلك وهو من الموالي؟ فقيل له: إنّ الناس احتاجوا إلى علمه واستغنى هو عما في أيدي الناس.
وفي الغرب نجد بعضاً من هذه النماذج، فهذه ماجريت تاتشر، كانت بائعة مغمورة في بريطانيا، لكنها قررت أن يكون لها دور فاعل في الحياة، فكان لها ما أرادت، ولا أظن أحداً يجهل المرأة التي أصبحت في قمة الهرم البريطاني، ورأست مجلس وزراء بلادها لأكثر من دورة انتخابية.
ولم يكن جاك شيراك صاحب وجاهة ولا منصب، وإنما كان يعمل في مطعم في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه كان ينظر إلى القمة، فكان أن انتهى به المطاف بعد أربعة عقود ليصبح رئيساً لفرنسا، ونابليون بونابرت كان ضابطاً صغيراً، ثمّ ترقى حتى أصبح إمبراطوراً لفرنسا وسمع به القاصي والداني، ومازال الناس يؤرخون الأحداث التي صنعها.
إنّ الأمثلة كثيرة في هذا المضمار، كما أنّ التاريخ وواقع الناس مليئان بالشواهد والأدلة وما ذكرته غيض من فيض، وعزاؤنا في ذلك قول القائل:
يكفي اللبيب إشارة مرموزة *** وسواه يدعى بالنداء العالي►
المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1407 لسنة 2000م
ارسال التعليق