• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مقومات الكتاب الجيِّد للطفل

مقومات الكتاب الجيِّد للطفل

في كتابات (جوته) عن طفولته، هناك فقرة جميلة لا يمكن نسيانها. يقول (جوته) إنّ أُمّه كانت تحكي له قصّة قبل أن ينام؛ ولكنّها كانت تتوقف عن الحكي عند نقطة مثيرة، ثمّ تطلب منه أن يتوجه إلى فراشه لينام. وتطلب من الفتاة التي كانت ترافقه حتى يدخل غرفة نومه أن تحثه على استكمال القصّة كما يراها في خياله. وعندما ينتهي جوته من استكمالها يستغرق في النوم، وتذهب الفتاة إلى أُمّه وتخبرها بما حدث. وفي صباح اليوم التالي يستمع جوته إلى استكمال أُمّة للقصّة، فإذا بجوته يسمع نفس الذي كان قد حكاه قبل النوم. وجوته الشهير هذا هو ثمرة هذه التربية.

إنّ تعلّم القراءة يبدأ من الصغر، ويبدأ من القدرة على فهم الصور ومحاولة فهم الكتاب من خلال الصور الموجودة به، وفهم هذه الصور على أنّها لغة قائمة بذاتها، بمعنى أن يصبح الطفل قادراً على تحويل المعاني الرمزية التي يراها في الصورة إلى كلمات محسوسة ومفهومة. وتعلّم قراءة الصور هو الخطوة الأولى لتعلّم اللغة المكتوبة، لذلك يجب تشجيع الأطفال على فك رموز الكُتُب المصورة ومحاولة فهمها.

وإقبال الطفل الصغير على ممارسة القراءة يتوقف على قدرته على فهم الصور والنصوص المكتوبة، خاصّة إذا كانت معروضة بشكل جيِّد. وعن طريق القراءة المنظومة والمثمرة يستطيع الطفل إيجاد علاقة بين عالمه الخاص، وخبراته، وبين هذه الأعمال المقروءة. فعند قراءة الطفل لمثل هذه الأعمال فإمّا يتفاعل معها ويجد نفسه فيها، وإمّا أنّه يجد فيها أشياء جديدة لم يكن يعرفها من قبل، وهذا يتوقف على طريقة عرض الصور والنصوص. وطريقة العرض هذه تنمي قابلية حبّ القراءة والاستمتاع بالكتاب لدى الطفل وتشعره بالرغبة في الاستمرار في القراءة، إذ يجد نفسه متشوقاً لمعرفة المزيد عن عوالم جديدة لا يعرف عنها شيئاً إلّا عن طريق القراءة. ومن ثمّ فإنّ القراءة تزيد إحساس الطفل باللغة وتكسبه القدرة على التعبير عن نفسه، وهذه ظاهرة إيجابية تنمي قدرة الطفل على البحث عن ذاته وما بداخله وخلق إحساس بالرغبة في التعرّف على الآخرين الموجودين في العالم الخارجي المحيط وكيفية التعامل معهم، وتنمي إحساسه بالثقة بنفسه.

والقراءة من أعقد الأنشطة العقلية، فهي تتطلب تمييز شكل الكلمة سمعياً وبصرياً، كما تتطلب التفكير، وتوقع المعاني التي ترمز الكلمات إليها، وهي أشبه ما تكون بحل المشكلات، واستنباط الفروض، والتحقق من الاستنتاجات.

والكتاب الجيِّد للطفل لا يعزله عن العالم المحيط به، بل على العكس فإنّه يصبح رفيقه الحميم، وينمي لديه القدرة على الإبداع.

وتختلف معايير ومقومات الكتاب الجيِّد من إنسان لآخر باختلاف التخصصات والرُّؤى، فالناقد الأدبي، مثلاً، يختلف في تصوره عن السياسي ويختلف عن المعلم التربوي. كما قد تختلف المعايير نفسها من مؤلف لآخر، فمعايير الكتاب الجيِّد تتضمن الكثير من المقومات كموضوع القصّة التي يرويها الأديب، والطُّرق والوسائل التي يطرحها، فهل هي جديرة بالتصديق أم أنّها شخصيات خيالية يطرح كلّ منها موضوعاً أو قضية معينة؟ كذلك الأسلوب الشخصي للأديب، إضافة إلى لغة وأساليب وأدوات الأديب، ومواطن الجمال والصنعة الأدبية. وأبرز وأهم المعايير هو أن يكون الكتاب جيِّداً من الناحية التربوية، وهل ينصح بقراءته، وإلى أي شريحة ينتمي هذا الكتاب؟ وما هدف المؤلف من هذا الكتاب؟ وماذا سيتعلّم التلاميذ منه؟

عنصر التشويق في بداية الكتاب ومقطعه الأوّل مهم، لأنّه بناء عليه يحدِّد الطفل إذا كان يرغب في استكمال قراءة الكتاب أم لا، لذا لابدّ أن تكون بداية الكتاب موقفاً أو نقطة مثيرة تشد انتباه القارئ.

الكتاب الجيِّد للطفل ينمي السلوك الاجتماعي، ويضع الخطط بالنسبة للحياة في المستقبل، ويزيد من علم الطفل ومعرفته، ويزيد من استمتاعه وشغفه بهذا العالم الذي يعيش فيه ويضعه في أدوار الكبار عن طريق (اللعب والتخيل)، ويستطيع الطفل من خلاله أن يتخيل حياته في المستقبل، ويغريه على الضحك أو يجعه يبكي، وينمي مَلَكة التخيل والإبداع لديه، وإحساسه بالكلمة ومعناها، وينمي مداركه اللغوية، لأنّنا نفكِّر عن طريق اللغة ونؤثر بها على طريقة تفكير الطفل، ونبعث على مزيد من الأحاسيس، فثمة إحساس معين لا نستطيع أن نحسه إلّا بعد التعبير عنه بكلمة معينة، فالطفل الصغير لا يستطيع أن يفرّق بين الإحساس بالرضا والسعادة والإحساس بالألم إلّا عندما يضحك أو يبكي، ويكون ذلك فقط عندما يستطيع أن يعبّر عن مثل هذه الأحاسيس بالكلام. وهذا يحدث أيضاً عندما يشعر بالجوع وعندما يشعر بالملل والألم والغضب. وطفل الحضانة يصعب عليه في كثير من الأحيان أن يتعرّف على أحاسيسه فكيف له أن يُسمِّيها؟!

كلّ هذه الأحاسيس لا يستطيع الطفل أن يعبّر عنها ولا التغلّب عليها إلى أن يقول له أحد: (أنت غاضب على أخيك)، ومن خلال هذه الحقيقة يبدأ الطفل في فهم الموقف الذي يعاني منه، ويشعر بأنّه الوحيد الذي يشعر بمثل هذه الأحاسيس تجاه أخيه، وأنّ هناك ملايين سبقوه في نفس الطريق.

وبقدر ما يستطيع الكاتب أن يعبّر بدقة عن مثل هذه الأحاسيس، فإنّه يسهل على الطفل استيعابها وتفهمها، ويبدأ الطفل في التفرقة بين الكلمات المتقاربة، مثل مرح وسعيد، ونشيط ومحبّ للحياة، ومزاجه معتدل، وشاعر بالرضا.

إنّ عنصر الخيال في كُتُب الأطفال هو عنصر مهم جدّاً ويؤدي دوراً فعّالاً، فعالمنا الآن في حالة يُرثى لها، حيث الأسلحة المدمرة والحروب والصراعات لا حصر لها.. والأنهار والبحار مسممة، وهواؤنا الذي نستنشقه ملوث بالمواد الضارة ويصعب علينا تنفسه، والسياسيون يسعون لإيجاد الحلول دون جدوى.

وفي مثل هذه المواقف نحن في حاجة إلى جيل جديد يستطيع أن يفكِّر بشكل جديد، وأن يسير في طُرُق لم نسكلها من قبل للوصول إلى حل، وأن يدور الكتاب حو "ماذا لو كان؟"، وأن يجد الطفل سعادة في هذه الخيالات، ويستطيع أيضاً أن يتخيل عوالم وحقائق أُخرى غير التي يعرفها هو.

يُقدِّم الكتاب الجيِّد صوراً ونصاً مكتوباً بقصد التوجيه والإرشاد بطريق غير مباشر وليس بالوعظ والتعليم، ويعتمد التوجيه على طريقة عرض المعلومات التي يستطيع الطفل بها تكوين صورة عن العالم الذي يعيش فيه، بما يساعده على تكوين شخصية سوية وكذلك رسم معالم مستقبله، كما أنّ المعلومات المطروحة عليه بشكل موضوعي تنمي لديه القدرة على التعامل مع العالم الخارجي.

وطريقة عرض الصور والنصوص المثيرة المشوقة تجعل الطفل شغوفاً، خاصّة إذا كانت تحتوي على النكتة والتهكم. أمّا احتواء كُتُب الأطفال على صور، فيجعل فهم الكتاب أكثر سهولة بالنسبة للأطفال الصغار، فالأطفال في سن السادسة يحاولون فهم القصّة عن طريق فهمهم للصور والتعمق فيها.

ولغة الكتاب لابدّ أن تراعي المرحلة العمرية التي تخاطبها، فإذا كان الأطفال حديثي القراءة فلابدّ أن تكون الكتابة في صورة جمل قصيرة لا تزيد على ست أو ثماني كلمات، وبعدها جمل أطول قليلاً.. يحبّ الأطفال قراءة الحوار، كما يحبّ الأطفال أيضاً اللغة الرنانة والمنغمة والكلام الموزنن، والأغاني، وأن تراعي اللغة الاختلاف بين الشخصيات والبيئات المختلة، ولابدّ أن تختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى حتى تكون أكثر تأثيراً في الطفل، وبذلك تثير هذه العوامل خيال الطفل وتخلق منه قارئاً جيِّداً وتشجِّعه على فنّ الحوار والجدل مع الآخرين.

 

* د. خالد صلاح حنفي/ أكاديمي من مصر

ارسال التعليق

Top