الصِّدق من القيم الأخلاقية الإسلامية، سواء في علاقة الإنسان مع ربه أو مع نفسه أو مع الناس؛ أن يعيش الصِّدق في الفكرة فلا يزيّف عقله بالأكاذيب التي يقرأها أو يسمعها، والصِّدق في الكلمة فلا يتحدث بحديث يخالف الحقيقة ويشوّه الواقع للناس، والصِّدق في الموقف بحيث يكون موقفه مطابقاً لمبادئه وإيمانه وعقيدته، فلا يختلف موقفه عن التزاماته الإيمانية. فالصِّدق يمثّل الارتباط بالحقيقة والالتزام بالحقّ والابتعاد عن الباطل. وفي مقابل الصِّدق هناك الكذب الذي يزيّف الواقع ويبتعد بالإنسان عن مبادئه عندما يتكلم بكلام لا يؤمن به، وعندما يحدِّث الناس بالأكاذيب ليُبعدهم عن الصورة الحقيقية للواقع، أو عندما يحدِّثهم عن تاريخ كاذب وضعه الوضَّاعون والكذّابون، أو عن مسألة تتعلّق بالأمن على غير ما هي في الواقع، فيؤدي ذلك الاهتزاز النفسي والواقعي. فإذا أخبر الإنسان بحديث سلبي لا واقع له، فإنّه يجعلهم يعيشون الخوف والقلق من خلال هذه المعلومات الكاذبة، وإذا حدّث بحديث عن الأمن بينما هو غير موجود في الواقع، فإنّه يجعل الناس يعيشون الاسترخاء والثقة حيال هذا الواقع، بينما تكون الحقيقة أن هناك أخطاراً تتحدّى الإنسان. ولذلك فإن مسألتي الصِّدق والكذب هما من المسائل التي قد تؤدّي إلى الاهتزاز أو إلى الاستقرار.
مواقع الصِّدق ونتائجه
تحدّث الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية عن النتائج التي يحصل عليها الصادقون يوم القيامة، عندما يقفون للحساب بين يديه، فنقرأ في سورة المائدة قوله تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة/ 119)، لأنّ هذا النوع من الرضا المتبادل بين العبد وربه، يرفع من درجة الإنسان عند ربه، ويمنحه رضاه وحبّه وجنّته، لأنّ الله تعالى يحبّ الصادقين باعتبار أنّهم يمثّلون الحقّ ويبتعدون عن الباطل، وقد قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ) (الحج/ 62).
الصِّدق يمثّل الإسلام كلّه، في كتاب الله وسنّة رسوله، وفي كلّ ما قرره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما ألهمه الله إيّاه وما تحرّك به ـ وَصَدَّقَ بِهِ فهو لم يدعُ النّاس إلى التّصديق بالمبادئ دون أن يصدّق بها، كما يفعل البعض استغلالاً للآخرين، لأنّ الأنبياء والأولياء والدعاة إلى الله، يبلّغون الناس ما يؤمنون به ويلتزمونه بصدق، (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ -لأنّهم يراقبون الله في كلماتهم ومواقفهم وعلاقاتهم وحركاتهم ـ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (الزمر/ 32-34)، وأيُّ إحسان أفضل من أن يكون الإنسان صادقاً مع ربه ومع نفسه ومع الناس؟!
الصِّدق في القرآن والحديث
يحدّثنا الله تعالى عن نموذجٍ من الصادقين، يقول سبحانه: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ـ الذين كانوا مع رسول الله في مكّة، وتحمّلوا معه كلّ الآلام والعذابات وهاجروا معه ـ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ـ في ميادين الحرب والسلم أولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر/ 8). وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «عليكم بالصِّدق الصِّدق في كلّ المواقع ـ فإنّه باب من أبواب الجنّة». وجاء عن الإمام عليّ (عليه السلام): «الصِّدق أمانة ـ لأنّ الصِّدق هو الحقّ، والحقّ أمانة الله عند عباده ـ والكذب خيانة». وعنه (عليه السلام): «الإيمان أن تؤثر الصِّدق حيث يضرّك ـ أن تؤثر الصِّدق وإن كان فيه الضّرر والخسارة المادّيّة ـ على الكذب حيث ينفعك».
ويتحدَّث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأساس الّذي يمكن للإنسان من خلاله أن يحكم على إيمان الإنسان الآخر، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج والمعروف، وطنطنتهم باللَّيل، ولكن انظروا إلى صِّدق الحديث وأداء الأمانة»، فانظروا في حديث هذا الإنسان، هل يصِّدق إذا حدّث؟ ويؤدّي الأمانة إذا أؤتمن؟ عندها يمكن أن تحكموا بأنّه مؤمن.
وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش بعض الناس تكون الصلاة والصوم عادة بالنسبة إليه، ولكن اختبروهم عند صِّدق الحديث وأداء الأمانة». وفي حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «إنَّ الله لم يبعث نبيّاً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة»، فالأنبياء جاؤوا من أجل أن يدعوا الناس ليكونوا الصادقين في أحاديثهم، والأمناء فيما يؤتمنون عليه، وقد كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يبعث بالنبوّة معروفاً بالصِّدق والأمانة، حتى غلبت هذه الصفات على اسمه، حتى إنّه بعد أن بُعث بالرسالة وعاش الصراع مع قومه، كانوا لا يأتمنون أحداً غيره، وتذكر كتب السيرة أنّه عندما هاجر (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، ترك عليّاً (عليه السلام) في مكة ثلاثة أيام من أجل أن يؤدي إلى النّاس ودائعهم التي كانت عنده.
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119)، بمعنى أنّكم عندما تريدون أن تتّبعوا شخصاً أو تساعدوه أو تناصروه أو تكونوا من جماعته، فانظروا هل هو من الصادقين، فإن كان صادقاً كونوا معه، لأنّكم بذلك تكونون مع الصِّدق ومع الحقّ الذي يتجسّد فيه.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق