الأمانة.. رأس مال المجتمع الإنساني
يشار إلى الأمانة على أنّها قيمة عُليا من القيم الإنسانيّة، وخلقٌ رفيع من الأخلاق الكريمة، فهي أعظم حلية يتحلى بها الإنسان، وأكرم صفة يتصف بها بنو البشر. الأمانة هي في الحقيقة رأس مال المجتمع الإنساني، والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي. فمن خلالها يأمن الأفراد على ممتلكاتهم ومقدراتهم ويحافظ المجتمع على طاقاته وإمكاناته وثرواته ويحفظ المال العام الذي قد يستباح بحجة انه مال لا صاحب له كما يقول البعض وينسى هؤلاء انّ هذا المال هو ملك لكلِّ المجتمع والإساءة إليه هي إساءة إلى كلِّ أفراده. ويتوسع مفهوم الأمانة في القرآن الكريم ليشمل أكثر من أفق (وَالَذِينَ هُم لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون/ 8). فهي تشمل كلّ المسؤوليات التي حملنا الله إياها في الحياة والتي تحملناها بإرادتنا أو حملنا إياها المجتمع وهكذا تتحرك الأمانة في أفعالنا وحتى في كلِّ أقوالنا فمجالس الناس بين أيدينا أمانة ومقتضى الواجب أن نحافظ على أسرارهم وخصوصياتهم بأن لا نبوح بها وإن باحوا هم بأسرارنا وقد ورد عن علي (عليه السلام): «لا تخن من ائتمنك وإن خانك، ولا تذع سره وإن أذاع سرك». وأمانةُ المال الوطن وأمانة المجتمع وأمانة الأُمّة هي أنك عندما تكون مسلماً فإنّ ذلك يساوي أن لا تكون فردياً «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» «مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى» فأنت جزء من أُمّة وعلى الجزء أن يتفاعل مع أحلام الكلّ ومع آلام الكلّ.
للأمانة مفهوم واسع لا يقتصر على الأمور المالية
عند التحدّث عن الأمانة، فإنّ أغلب الناس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الأُمور الماليّة فقط، مع أنّها طبعاً من أبرز مصاديق الأمانة، كما هو مفهوم من قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ (البقرة/ 283). لكن للأمانة مفهوماً واسعاً جدّاً، بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنعم الربانيّة على الإنسان. فالأمانة صفة تدعو صاحبها إلى حفظ كلّ ما يُؤتمن عليه في جميع الأشياء المادية والمعنوية بالسر والعلن. وإذا كانت تعاليم الإسلام تهدف عامة إلى غرس خلق الأمانة في نفس المؤمن، فإنّ الصدقة والصيام يُعدُّان من أقوى العبادات في تربية هذا الخلق، وذلك إذا أقبل عليه المؤمن في صدق وإخلاص ومراقبة. إنّ جميع النعم الماديّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة على الإنسان في بدنه ونفسه، هي في الحقيقة أمانات بيد الإنسان. فالأموال والثروات الماديّة، والمقامات والمناصب الاجتماعيّة والسياسيّة هي أمانات بيد الناس، ويجب عليهم مراعاتها من موقع الحفظ وأداء المسؤوليّة. الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، والطلّاب أمانة بيد المعلِّمين، الماء والتراب والهواء وجميع ما خلقه الله تعالى من الكائنات الطبيعيّة لتيسير حياة الإنسان في حياته الدنيا، كلّ ذلك يُعتبر أمانة غالية بيد الإنسان، ويُعدّ التفريط فيها وعدم أداء حقّها خيانة بالنسبة إلى هذه المواهب، ومن الذنوب الكبيرة. أيضاً من مصاديق الأمانة، التكاليف والأحكام الشرعية، من الصلاة والحج والزكاة وغيرها، فكلها ودائع وأمانات إلهيّة، لذا كان الإمام علي (عليه السلام) عندما يحين وقت الصلاة يتغير حاله، وعندما سُئِل عن ذلك، قال: «جَاءَ وَقتُ الصَّلاةِ، وَقتُ أَمانَة عَرضَها اللهُ عَلَى السَّمواتِ وَالأَرضِ فأَبَينَ أنْ يَحمِلنَها وأَشفَقنَ منها». ومن أنواع ومصاديق الأمانة أيضاً عمل الإنسان، كما روي عن الإمام علي (عليه السلام)، حيث قال: «وإنَّ عَمَلَكَ لَيسَ لَكَ بِطُعمَة، وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمانَة».
مفهوم الأمانة الإلهية
أطلقت الآيات القرآنيّة الأمانة على التكاليف الإلهيّة، يقول تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب/ 72). فالمقصود من الأمانة الإلهيّة هي المسؤوليّة والتكليف الملقى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل والحريّة والإرادة. وهذه الآية تبين لنا مدى أهمية الأمانة في الأخلاق الإسلامية. وقد فسرت هذه الآية عن وجوه شتى، قيل: في معنى الأمانة هي ما أمر الله به من طاعته، ونهى عن من معصيته. وقيل: هي الأحكام والفرائض التي أوجبها الله تعالى على عباده. وقيل هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود: وائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، حين أراد إلى مكة عن أمر ربه، فخان قابيل إذ قتل هابيل.
ثمار وفوائد الأمانة على المجتمع ونهضة الأمة
إنّ أهم فوائد أداء الأمانة على المستوى الاجتماعي هي مسألة الاعتماد وكسب ثقة الناس، والحياة الاجتماعيّة مبنيّة على أساس التعاون والتعاضد والثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع. الأمانة هي العامل الرئيسي في كسب المحبّة وتعميق أواصر الصداقة والألفة والتحابب والتقارب بين الأفراد. عندما تسود الأمانة في المجتمع وفي العائلة، فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسكينة الفكريّة والروحيّة، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة سيكون مدعاة للقلق والخوف عند الناس، بحيث يعيشون حالة من الارتباك في علاقاتهم مع الآخرين، ومن الخطر المحتمل الذي ينتظر أموالهم أو أنفسهم أو أغراضهم أو مكانتهم الاجتماعية. إنّ الدين الإسلامي أمر المسلمين على أن يكونوا أمناء على دينهم، وأنفسهم، وأموالهم، وجيرانهم، ومن لاذ بهم، ليسود الأمن وتحفظ الأنفس، وتراعى الحقوق، ويكون الجميع، في أمن ورغد من العيش، واستقرار وطمأنينة وبهذا ترتفع نهضة الأمة وتطورها وازدهارها.
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحذر المؤمنين
يقول النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «من ائتمن غير أمين فليس له على الله ضمان، لأنّه قد نهاه أن يأتمنه»، نفهم من الحديث إن على المؤمن الحذر، فالمؤمن كيّس فطن، ينبغي أن يتعامل مع أهل الأمانة، ولا يكن بسيطاً يأتمن أيّاً كان، ومن هنا جاء التَّحذير من التَّعامل مع بعض النَّاس.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق