وردت كلمة (غضب) في القرآن الكريم في ثلاثة وعشرين موضعاً باشتقاقات مختلفة، وجاءت بعدة معانٍ، منها:
أوّلاً: إرادة العقوبة أو الانتقام:
قال القرطبي: "قال بعضهم: ومعنى الغضب في صفة الله عزّ وجلّ: إرادة العقوبة، فهو صفة ذات، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته؛ أو نفس العقوبة، ومنه الحديث: "إنّ الصدقة لتطفئ غضب الرب".
وقال الراغب الأصفهاني: "إذا وُصف الله تعالى به – يَقْصِدُ الغَضَبَ – فالمراد به الانتقام دون غيره".
ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى:
(وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور/ 9).
(وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (طه/ 81).
(فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) (البقرة/ 90).
ثانياً: الانفعال:
وقد ورد الغضب بهذا المعنى في عدة مواضع من القرآن الكريم؛ منها:
1- غضب موسى (ع):
حكى القرآن الكريم قصة موسى (ع) عندما ذهب لميقات ربه، وعند عودته وجد أن قومه عبدوا العجل، فثار غضبه من هول ما رأى، فألقى الألواح التي كان يحملها، قال تعالى:
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (الأعراف/ 150).
وقد وردت الإشارة إلى غضب موسى (ع) مقرونة بالأسف، والأسفُ هو الحزن، والكلمة صيغة مبالغة، فيقال: آسَف وأسِف، للمبالغة، والمعنى: أنّه كان شديد الحزن بسبب انحراف قومه عن الصراط المستقيم.
وكل من الأسف والغضب عملية نفسية، إلا أنّ الأسف قد لا يظهر فيه رفض الشيء، وقد عبّر عنه موسى (ع) من خلال عدة أمور:
1- تأنيبه لقومه بالقول، وتقبيح ما فعلوا من كبيرة الشرك، وذمّه لما فعلوا ذمّاً شديداً، فقال: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي).
2- طرح عليهم سؤالاً يحمل في ثناياه الاستنكار والتوبيخ بقوله: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ)؟!.. ويقصد بذلك: أسبقتم أمر ربكم، وتجاوزتم حدوده بسبب استبطائكم لي؟! بمعنى آخر: هل كنتم تؤمنون لأجلي أم لأجل الله تعالى؟!.
3- أخذ الألواح التي كان يحملها، وهي حركة تدل على الانفعال وشدة الغضب، فالألواح التي كانت في حوزته تحمل المنهج الرباني ولا يمكن أن يلقيها إلّا إذا فقدَ زمام نفسه من شدة الغضب، وقد ذكر النبي (ص) ذلك، فبيّن أنّ المعاين ليس كالمخْبَر، فقد كان وقع الأمر كبيراً على موسى (ع) عندما رأى قومه قد عبدوا العجل، فقال: "ليس المعاينُ كالمُخْبَر" أخبره ربه – عزّ وجلّ – أن قومه فُتِنوا بعده، فلم يُلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح.
4- أخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وهي حركة تدل على أن موسى (ع) شعر أن أخاه هارون قصَّر في توجيهه للقوم ومتابعتهم، وقد فهم هارون (ع) ذلك منه، فقال له مبرِّراً ما حصل: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) (الأعراف/ 150). وفي الآية الكريمة إشارات إلى:
أ) أن هارون (ع) استجاش في نفس موسى (ع) عاطفة الأخوة الرحمية، وطلب منه ألا يسوقه مساقهم، وألا يخلطه معهم.
ب) بيَّن له أن موقفه كان موقف المعارض والمقام الذي أدى ما عليه، حتى إنهم فكّروا في قتله، وكانت مقاومته ضمن الطاقة البشرية، فقد اجتهد ولكنه امتنع عن الزيادة في المقاومة خشية أن يتفرق بنو إسرائيل؛ قال تعالى: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طه/ 94).
ت) طلب منه ألا يتمادى في غضبه ويُشمت به الأعداء.. والشماتة: هي إظهار الفرح بمصيبة تقع بخصم.
2- سكوت الغضب عن موسى (ع):
بعد أن هدأت ثائرة موسى (ع) اتجه إلى الله تعالى بالدعاء والاستغفار، قال تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (الأعراف/ 154).
وقد عبّر القرآن الكريم عن سكون الغضب وزواله بقوله: (سَكَتَ)، فالله – سبحانه وتعالى – هنا يشخِّص الغضب كأنّه كائنٌ حي مُسلّط على موسى (ع) يدفعه ويحرِّكه، حتى إذا سكت عنه عاد موسى (ع) إلى نفسه، وأخذ الألواح التي ألقاها، ودعا الله تعالى لنفسه ولأخيه بالمغفرة والرحمة: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأعراف/ 151).
3- غضب يونس (ع):
وردت قصة يونس (ع) بتفصيلاتها في القرآن الكريم، وذكر لنا القرآن الكريم مغاضبته لقومه وتركه لهم؛ ظنّاً منه أنّ الله تعالى لن يُضيِّق عليه، بل سيمكِّنه من أن يسيح في الأرض ليجد أقواماً غير قومه الذين استعصوا عليه ولم يستجيبوا له، فلربما استجاب له أقوام آخرون وساروا في طريق الهداية.
قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء/ 87).
ومعنى مغاضباً: أنّه غضب من قومه لأجل ربه، كما يقال: غضبت لك؛ أي: لأجلك. وقيل: المعنى: المغاضبة: المشاركة؛ لأن قومه شاركوه في غضبه فكانوا السبب في ذلك، وقوله تعالى: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) معناه: أننا لن نضيق عليه طرقه، كقوله تعالى: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (الفجر/ 16).
أما سبب غضب يونس (ع) فهو: أنّه حاول جاهداً دعوة قومه إلى الحق، وإرشادَهم إلى سبل الرشاد، فتحداه قومه، وتوعَّدوه بالعقاب إن لم ينزل عليهم العذاب الذي توعَّدهم به، وعندما جاء الموعد المحدد ولم ينزل عليهم العذاب خاف أن يتجرؤوا عليه، فخرج من عندهم مغاضباً إلى مكان آخر – ولم يكن يعلم أنّهم تابوا عندما رأوا العذاب.
أما مظهر غضبه فتمثَّل في تركه لقومه وذهابه إلى مكان آخر؛ طلباً لأقوام آخرين غير قومه، لعلّه يجد فيهم خيراً ويستجيبون لدعوته.
يلاحظ مما سبق: أنّ القرآن الكريم عرض نماذج من غضب بعض الأنبياء، وتشير تلك النماذج إلى أن غضبهم كان سبب الغيرة على الدين، وحرصهم على تبليغ الرسالة إلى قومهم وثباتهم على الإيمان بعد اتباعهم لأنبيائهم.
المصدر: كتاب لا تغضب.. فن إدارة الغضب
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق