قد يكون الفعل التعبيري للغة، أمراً طبيعياً ومقبولاً، بل واجباً، في مجالات الكتابة الموضوعية أو التقريرية؛ بيد أنّه يتحوَّل إلى فعل ذي تشكل "مأساوي"، أو "درامي"، مع بعض مجالات الكتابة الأدبية. ولذا، لابدّ هاهنا من التمييز بين نوعين من الكتابة الأدبية: واحد يقوم على "توليف" ما هو معروف ومشترك؛ وآخر يقوم على "إبداع" جديد لم يخبره الناس من قبل. يمكن للنوع الأوّل أن يُسَمَّى، في هذا المجال، كتابة توليفية؛ باعتبار أنّه يقوم على توليف صيغٍ سبق للناس أن ألفوها عبر التعامل معها أو من خلالها. ويمكن للنوع الثاني أن يُسمّى كتابة إبداعية؛ باعتباره أنّه يقوم على إبداع صيغ لم يشترك، أو لم يألف الناس، في حينه، التعامل معها أو من خلالها.
الكتابة الإبداعية ليست، إذاً، مجرد تعبير أدبي أو رصف إنشائي، بقدر ما هي تشكيل ينقل إلى الآخرين ما يساهم في تكوين فهم جديد من قبلهم للحياة، أو أقله، للتعامل معها. والكتابة، بذا، لا يمكن أن ينظر إليها إلا باعتبارها وجوداً إنسانياً، وجمالياً، ومعرفياً في آن. فالإنسان لا يقدر، وبحكم ما لديه من قدرة أو قابلية للإبداع، إلا أنّ يخرج عن الواقع الذي هو فيه، وأن يحاول تغيير هذا الواقع انطلاقاً من الأحوال والمواقف التي يعيشها فيه. ومن جهة ثانية، فلا حدود لهذا الإبداع، طالما يداوم الإنسان الكشف في كلِّ يوم عن أشياء جديدة. ومن هنا يظهر الغنى والتشابك اللذان ترفل بهما الكتابة الإبداعية، وتُمارِسُ، من خلالهما، تشكيلها للوجود الإنساني؛ في مقابل البساطة، أو السذاجة التكوينية والتأثيرية، التي تسبح الكتابة التوليفية في سكونهما.
إذا أمكن القول إنّ اللغة التعبيرية، والتي تقوم في أساسها على فعل التوليف، هي الكتابة ذات الأصول المشتركة أو العامة بين الكاتب والقارئ، أو ما يمكن تسميته بالمرسل والمستقبل؛ فإنّ اللغة الإبداعية هي تلك التي تقوم على ما هو ذاتي أو خاص بالكاتب، وما هو مجهول أو جديد من قِبَل المستَقبل. من هنا، فإنّ الأمور المشتركة، والمعروفة، "المتفاهم عليها"، بين المُرسل والمستقبل لا تقدِّم، بحدِّ ذاتها، إشكاليات جوهرية تنتظم ذلك التمظهر الإشكالي للغة؛ في حين تقع الإشكاليات الجوهرية في مجال الكتابة الإبداعية. ولعل سبب هذا الأمر يرتبط بعوامل عدة، من أبرزها ما يعود إلى المُرسِل، أو إلى المستَقبِل، أو لكليهما معاً.
لا يمكن أن يكون ثمة إبداع من فراغ، بل لا يمكن للوجود الإبداعي إلا أن يتأسس انطلاقاً من واقع ما. لذا، لابدّ للأديب المبدع من أن ينطلق، في نتاجه الإبداعي، من معرفته لأمور يستنبطها من حقائق وجوده. وكلما تعمقت هذه المعرفة المؤسِّسة للإبداع، ازداد النتاج الأدبي غنى وروعة. ويبقى السؤال قائماً حول المجال الذي تُمارسُ فيه هذه المعرفة من قبل الأديب: أيقتصر على الذات بعواملها الداخلية، أم تراه يسعى إلى انطلاق نحو الخارج؟
لابدّ من التأكيد، وعبر مراقبة السلوكية الإنسانية العامة، وانطلاقاً من مقولة إنّ الإنسان كائن اجتماعي، أنّ "الإنسان يطمع إلى أكثر من مجرد كيانه الفردي، (إنّه) يريد أن يكون أكثر اكتمالاً؛ فهو لا يكتفي أن يكون فرداً منعزلاً، بل يسعى إلى الخروج من جزئية حياته الفردية إلى كلية يرجوها ويتطلبها". ولعل في هذا ما يؤكد أهمية نزعة المبدع، فناناً أو أديباً، للخروج من ذاتيته الفردية الخاصة إلى ذاتية مشتركة تجمع بينه وبين الآخرين. لكن هذا الأمر، وعلى أهميته الأساس في الفعل الإبداعي، يؤلف ما يمكن أن يعد البذرة الأهم في ظهور ذلك التمظهر الإشكالي في اللغة.
"الإبداع" يعني، هاهنا، الجديد يتأسس من الاختلاف عن ما هو "معروف". هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالمعروف عام ومشترك، في حين أنّ الجديد ذاتي وخاص. هنا يبدأ التعارض الأساس الذي يقوم عليه هذا التمظهر الإشكالي في اللغة الإبداعية؛ إنّه ذلك التعارف التفاعلي القائم بين ما هو "معروف" وما هو "ذاتي" في فاعلية تكون الأعمال الأدبية أو الفنية.
لابدّ من الإشارة، هناهنا، إلى أنّ كلِّ وسيلة للتعبير في طريق اللغة تحمل في ذاتها قوة جديدة، قوة إزاء الإنسان والطبيعة على حدٍّ سواء. ولا شكّ أنّ هناك عملية اكتشاف متصلة، لكنها اكتشاف "للواقع" لا "للحقيقة". إنّها اكتشاف للواقع الذي ينشأ بالعمل ومن خلاله، وباللغة ومن خلالها. من هنا يمكن القول إنّ لغة الكتابة الإبداعية ليست مجرد أداة للتعبير عن واقع أو معرفة وحسب، بل هي أداة لاكتشاف حقائق جديدة من هذه المعرفة. ولعل بالإمكان الحديث، هاهنا، عن وجهين لوجود اللغة، أحدهما الوجود التعبيري للغة، وثانيهما الوجود الاكتشافي للغة؛ أو ما يمكن الاصطلاح عليه، في مجال الدرس الإبداعي، على أنّهما التشكل الظاهر للفعل الإبداعي، والمعرفة المتأتية من تأويل هذا التشكل.
لقد بات على لغة الكتابة الإبداعية، وبحكم ذاتية وجودها، ألا تقدم بواسطة الوجود التعبيري للغة، أي مجال للتواصل مع الآخرين. ولذا، فإنّ المعارف أو الحقائق التي تحويها هذه اللغة لا تتمكن، بصورة مبدئية، من الوصول إلى الآخرين. لكن، ومن جهة ثانية، فإنّ لدى اللغة، وبحكم موضوعية وجودها وقابلية هذا الوجود لمبدأ التأويل، أن تقدم مجال تواصل ووصول إلى الآخرين. ولعل عبدالقادر الجرجاني يقف بين أولئك النقاد العرب الذين أشاروا إلى هذا الأمر في اعتباره "إنّ الجملة أبداً أسبق إلى النفوس من التفصيل"؛ ثمّ في قوله "إنّ الاشتراك في الصفة يقع مرة في نفسها وحقيقة جنسها، ومرة في حكم لها ومقتضى". لابدّ، إذن، من كسر حدّ الذاتي في لغة الوجود، والانتقال بهذه اللغة من كونها لغة تعبير إلى كونها لغة كشف.
لابدّ للمرسل، والحال كذلك، من أن يعتمد لتحقيق فاعلية الكتابة الإبداعية عبر التوصيل، أو ما يمكن أن يشكل البعد النفعي في هذا المجال، صيغاً أو مفاهيم مشتركة بينه وبين المستقبل. ولابدّ، هاهنا، من استغلال حقيقة أنّ "اللغة ليست مجرد أداة تعبير عن حقيقة معروفة، وإنما أداة لاكتشاف حقيقة تبقى مجهولة حتى اللحظة".
يبقى أنّ المستقبل، بات قادراً، بمقتضى التشكل الظاهر للفعل الإبداعي، ومن المعرفة المتأتية من تأويل هذا التشكل، على الاغتراب عن الدلالات المألوفة من اللغة متمثلة بالوجود المجرد للغة، إلى المعنى المتحقق من هذا الوجود متمثلاً بالكتابة الإبداعية.
صحيح أنّ المبدع قد لا يبدي اهتماماً ظاهراً لتوصيل ما يبدعه، لكن لابدّ من التأكيد على أنّ أي تشكل فني، واستناداً إلى الأساس الجمالي لوجود كلّ ما هو فني، ليس، وفي نهاية المطاف، سوى وجود توصيلي. فالجمالي تعبيري، والتعبيري فني، والفني توصيلي. ►
المصدر: كتاب إنتبه! أنت مبدع
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق