أينما توجد أُسرة لابدّ أن يوجد هناك تنافس بين الأشقاء، وتنافس الأشقاء هو مصطلح كان أوّل مَن وضعه الطبيب النفسي ديفيد ليفي عام 1930، وذلك عندما أجرى اختباراً أعطى فيه مجموعة من الأطفال دُمى تمثّل والديهم وإخوتهم، وسألهم عمّا شعروا به عندما رأوا أشقاءهم في حضن أُمّهم أو أبيهم.
ومن بين الردود التي سجلها ليفي: الدفع بإخوتهم والرمي والصفع والضرب والتمزيق والعض والقرص بالأصابع والركل بالقدمين.
أكّد ليفي – الذي كرّر تجاربه مع عينة من الهنود في غواتيمالا مع نتائج مماثلة – أنّه بغضّ النظر عن العمر والجنس وترتيب الأبناء في الأُسرة والخلفية الثقافية، بقي التنافس بين الأشقاء حقيقة من حقائق الحياة الأُسرية.
وقد بيّنت الدراسات أنّ هذه المنافسة تولِّد مشاجرات دائمّة بين الإخوة قد تصل إلى ما بين ثلاث وسبع مرّات في الساعة بين الأشقاء الصغار (بين عمر سبع سنوات وأقل). وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المشاجرات تبثّ جوّاً متوتراً في أرجاء البيت، وتزعج الأهل بشكل خاصّ، بحيث تستهلك كثيراً من وقتهم، وتُشعرهم كما لو أنّهم كالحَكَم في ملعب رياضي، أو كالقاضي في باحة المحكمة، أو كمشاهد في ساحة نزال.
وأكثر من ذلك، فهي تصبح مصدر قلق للأهل الذين يدركون مدى أهميّة العلاقات بين الإخوة، ويحدوهم الأمل في أن يكون أطفالهم رفاق بعضهم البعض في المنزل، وسنداً لبعضهم الآخر في الخارج؛ لكنّ تطوّر العلاقات بين الإخوة أكثر تعقيداً ممّا يتصوّر كثير من الآباء والأُمّهات.
- المشاجرات بين الإخوة مزعجة؛ لكنّها مفيدة
والأخبار الجيِّدة للأهل هنا أنّ هذه المشاجرات مفيدة، لا بل ضرورية، لنمو أطفالهم.
تقول أُستاذة علم النفس التنموي د. جودي دن، إنّه «على الرغم من أنّ الأمر قد لا يبدو كذلك، فإنّ التنافس بين الإخوة يمكن أن يكون بنّاءً، ويهيئ الأطفال لبناء علاقات سليمة عند تقدّمهم في السن».
يقدّم الأشقاء تدريباً حياتياً مبكراً في كيفية العمل والعيش مع أشخاص آخرين، وتوفّر المشاجرات فيما بينهم دورة مكثفة في طريقة إدارة العواطف الحادة كالحسد والكراهية والغضب.
ولا شكّ في أنّ المنافسة على اهتمام الوالدين فطرية عند الأطفال من جميع الأعمار، وخاصّة الأطفال الأصغرسنّاً، كما أنّ النزاع بين الإخوة المراهقين يساعدهم على فهم حاجتهم إلى التميّز عن العائلة ورسم حدودهم الخاصّة.
بشكل عام، تشير الأبحاث إلى أنّ فوائد خلافات الإخوة تشمل زيادة المهارات في فهم الآخرين والقدرة على التفاوض والإقناع وحل المشكلات.
وبعبارة أُخرى، فإنّ بعض القتال ليس أمراً حتمياً فقط، بل إنّه تعليمي أيضاً.
واستناداً إلى مشروع بحث مدّته خمس سنوات، أجرى (مركز أبحاث الأُسرة) التابع لجامعة كامبريدج، دراسة لمعرفة مدى التطوّر المعرفي والاجتماعي للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين عامين وستة أعوام.
وقد أكّدت رئيسة فريق البحث الذي أجرى هذه الدراسة د. كلير هيوز، أنّه «كلّما ازدادت المشاجرات بين الأطفال الأشقاء، تعلّموا المزيد عن تنظيم عواطفهم وكيفية ومدى تأثيرها على مشاعر الآخرين».
«يكمن أحد الأسباب الرئيسة لهذا هو أنّ الإخوة هم حلفاء بعضهم البعض الطبيعيين، وغالباً ما يكونون على الموجة نفسها من التفكير، وفي كثير من الأوقات يدخلون فيما يُسمّى بألعاب التظاهر (لنلعب أنّك أنت المعلِّم وأنا التلميذ مثلاً)، التي تساعد الأطفال على تطوير وعيهم بالحالات العقلية المختلفة».
وتظهر النصوص المأخوذة من تسجيلات الفيديو التي شارك فيها الأشقاء في لعبة التظاهر بهذه الدراسة، أنّه خلال هذه الألعاب يناقش الأطفال الأفكار والمشاعر بعمق، وغالباً ما يؤسّسون ما يشير إليه الباحثون بـ«الدعائم العاطفية» التي يبني الأطفال حولها قصصاً تساعدهم على تطوير أفكارهم حول حالات ذهنية مختلفة ووعيهم بها.
ومن المثير للاهتمام، أنّه حتى عندما كان التنافس بين الإخوة واضحاً، على سبيل المثال عندما كان الأطفال يزعجون أو يتجادلون مع أشقائهم، كانت المبادلات الكلامية غنيّة عاطفياً لها فوائد عديدة، لاسيّما بالنسبة إلى الأطفال الأصغر سناً، حيث تتحوّل إلى مصدر إثراء عاطفي لهم.
ونتيجة لذلك، على الرغم من أنّ الأشقاء الأصغر سناً أظهروا معدلات منخفضة من التعبير عن الحالة النفسية من إخوانهم الأكبر سناً، فإنّ مستوى تفاهمهم الاجتماعي ازداد بسرعة، وفي فترة قصيرة كانوا يعبّرون عن عواطفهم على قدم المساواة تقريباً مع أشقائهم الأكبر سناً.
- دور الأهل وسط عاصفة الشجار
هذا لا يعني أنّ الآباء لا يمكنهم، أو أنّه لا يجب عليهم، مساعدة أطفالهم خلال مواجهاتهم ومشاجراتهم، وتقوية مشاعرهم الإيجابية تجاه بعضهم البعض، فهناك دائماً لحظات يحتاج فيها الآباء إلى التصرُّف، من أجلهم ومن أجل سلامة عقولهم، وأحياناً من أجل سلامة أطفالهم، خاصّة أنّ المشاجرات قد تتحدّى كلّ قانون يعتقد الآباء بأنّه مقدّس، مثل: لا ضرب، لا تعدٍّ على ممتلكات الآخرين، لا استبعاد.. فيأتي الضرب بعد تحريض صارخ، ويحصل التعدي على ألعاب أو مقتنيات الشقيق الآخر كرد فعل على إساءة عميقة، ويأتي الاستبعاد من المشاركة في الألعاب نتيجة لتصرُّف مماثل سابق.
تعتقد اختصاصية علم النفس، مؤلفة كتاب (عدوّي العزيز، صديقي الخطير.. صنع وفسخ روابط الأخوة)، دوروثي رو، أنّ على الآباء أن يتدخلوا في مشاجرات أطفالهم ليظهروا لهم أنّ هناك طُرُقاً أفضل من الشجار للتعامل مع الخلافات.
والمعاملة بالتساوي هي أفضل الحلول، كما أنّ الحرص على عدم الانحياز إلى طرف دون الآخر مطلوب، حتى لو كانت هناك إصابة تستحقّ التعاطف معها.
وتُظهر الأبحاث أنّ أحد أهم الأشياء التي يمكن للوالدين القيام بها لمساعدة الأطفال على تعلُّم كيفية إدارة عواطفهم خلال مشاجراتهم هو الحفاظ على هدوئهم هم أنفُسهم، لأنّ الأبناء ينظرون إلى والديهم كـ«بيئة حاضنة لتماسكهم»، وكملاذ آمن في خضم عاصفة مشاعرهم المضطربة.
وإذا استطاع الأهل البقاء هادئين، واستطاعوا تهدئة أطفالهم، فسوف يتعلَّم الأطفال في نهاية المطاف أن يظلوا هادئين هم أيضاً، وهي الخطوة الأولى في تعلُّم إدارة مشاعرهم.
ومع ذلك، وبعيداً عن وقت الشجار وفي أوقات مختلفة تماماً، من المهم أن يتحدّث الوالدان مع الأطفال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن البيئة العائلية السليمة والسلوك المهذب والآداب. وكما هي الحال مع كلّ جانب آخر من جوانب الأبوة والأُمومة، يُعدّ سلوك النمذجة أحد أفضل الوسائل لتعزيز الروابط القوية بين الأشقاء.
فيجب على الأهل الانتباه إلى نبرة صوتهم وهم يتحدّثون إلى بعضهم البعض، إذ يعتبر مشهد الآباء وهم ينتقدون بعضهم البعض شكلاً من أشكال التنافس بين الإخوة الكبار الذي لا يمر دون أن يلاحظه أحد أطفالهم أصحاب العقول الفضولية المشغوفة.
- هل تساعد الكُتُب والبرامج التلفزيونية المخصصة؟
قد يكون مصدر إلهام عديد من الآباء الشباب كوسيلة للمساعدة، البرامج التلفزيونية أو الكُتُب التي تعلّم الأشقاء المتشاجرين كيفية حل الخلافات؛ لكن عندما قارنت أُستاذة علم النفس التطبيقي في جامعة Northeastern د. لوري كرايمر، برنامجها (أكثر مرحاً مع الإخوة والأخوات)، الذي يعلِّم الأطفال كيفية حل النزاعات مع الأشقاء، مع برنامج مختلف لجأ إلى الكُتُب والرسوم المتحركة التي تعنى بإدارة النزاعات الأخوية، وجدت أنّ الأطفال الذين تعرّضوا لمثل هذه الوسائل تعلَّموا شيئاً آخر مختلفاً تماماً.
وتقول إنّه: «بعد ستة أسابيع من مشاهدة تلك البرامج وقراءة تلك الكُتُب، تراجعت جودة العلاقة الأخوية»، لماذا؟ لأنّ هذه الوسائل تدرّس أيضاً طُرُقاً جديدة للمعاملة السيِّئة بين الإخوة.
ولتأكيد ذلك، أجرت كرايمر دراسة لاحقة شملت 261 كتاباً تهتم بتصوير العلاقة بين الإخوة، وجدت فيها أنّ الكتاب المتوسط يظهر السلوك السيِّئ بقدر ما يسلِّط الضوء على السلوك الجيِّد.
ولا شكّ في أنّ كلّ شيء يصبح أسهل بكثير عندما نُقبل أنّ مهمّتنا كآباء وأُمّهات ليس القضاء على الصراع بين أبنائنا، بل للتخفيف من آثاره.
ويجب ألا ننسى أنّه غالباً ما ينسجم الأطفال جيِّداً تماماً كما يتقاتلون جيِّداً، لأنّهم يعلمون – بشكل فطري – أنّ وجودهم هو من بين الثوابت المهمّة في حياة بعضهم البعض: فالأصدقاء يأتون ويذهبون؛ لكنّ الأشقاء هم أشقاؤهم مدى الحياة.
* مهى قمرالدِّين/ باحثة من لبنان
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق