• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

محمد (ص) والإنسانية

د. السيد محمد بحر العلوم

محمد (ص) والإنسانية

◄لم يكن محمّد (ص) إلّا ذلك المثل الكامل للإنسانية، جسدها بأحسن مظاهرها من اللحظة التي مارس فيها عمله الإنساني قبل بعثته، وبعدها.

فهو ابن خمس عشرة سنة، أو أكثر بقليل حين كان له وجود شاخص في "حلف الفضول"، الذي تعاهد فيه عاقدوه أن يأخذوا بحقّ المظلوم من الظالم حتى يؤدي ما عليه. بعد أن أرهقت القبائل الحجازية بالقتال في حرب، سُميت في حينها بـ"حرب الفجار"، ودامت عدة سنوات، وخلفت في نفوس الناس ألواناً من المرارة والألم.

ولقب محمّد (ص) منذ حداثة سنه بـ"الصادق الأمين"، لأنّه كان صادقاً في قوله، وكريماً في تعامله، وشريفاً في أمانته، لم تعرف الخيانة إلى نفسه مجالاً، وشريفاً في لسانه فلا مر الكذب عليه لحظة، وحكيماً في رأيه، لا تلعب فيه العاطفة، ولا تهزه المشاعر، إنّه يعمل على جمع الكلمة، ويهتم بتأليف المشاعر.

حدث أن اختلفت القبائل العربية على بناء الكعبة، بعد أن داهمتها السيول والأمطار، وحين وصل البناء فيها إلى الحجر الأسود ليوضع في مكانه كادت الفتنة أن تقع بين قبائل مكة، كلّ واحدة منها تروم أن تحوز هذا الشرف، غير إنّ أحد الشيوخ، وهو يحاول أن يمنع وقوع الفتنة اقترح أن يكون أوّل داخل للكعبة حكماً بينهم، وتراضوا بذلك، والسيوف مشرعة، إذا بمحمد (ص) يدخل الكعبة، فتنادوا جميعاً: "رضينا بمحمّد حكماً، فهو الصادق الأمين". وحل القضية فيما بينهم حين فرش رداءه على الأرض، ثم وضع الحجر فيه، وطلب كلّ كبير قبيلة أن يأخذ طرفاً من الرداء، ثم حمل الحجر إلى موضعه وثبته هو مكانه، وصان بذلك إراقة الدماء.

وكان حريصاً وأميناً في تجارته مع خديجة قبل زواجه بها، ولم يحاول أبداً استغلال مالها في تجارة خاصّة له، ليربح من ورائها مالاً وفيراً، وغنى واسعاً، إنّ أمانته فيما يودع لديه، وصدقه بما يتعامل به، كانت نتيجة إنسانيته، وحرصه على تجسيدها لنا واقعياً. وإنّ مصلحة الناس حين تكون مؤثرة بحياة المجتمع، يقدمها على مصلحته الخاصّة مهما كانت جسامتها.

هذا هو خلقه وكماله قبل البعثة، يشار إليه بسمو الخلق ورفعة النفس، إنّها جذور الإيمان في أعماق النفس الرفيعة، وهذه بمجموعها تمثل الكمال الذي يرقى إلى مراتب المثل العليا، وانعكست بأكثر حين بعث: رحمة وهادياً، ومبشراً للعالمين.

وحين نحاول تحديد بعض المفردات من نهجه الإنساني القويم وهو يجابه أعتى قوم، ولم تبق لهم وسيلة إيذاء إلّا ومارسوها معه. فنراه يقابلهم بقولة كريمة فيها معاني الإنسانية: "اللّهمّ اغفر لقومي، إنّهم جهلاء".

ما كان يدعو بنزول العذاب عليهم، وصب البلاء فوقهم، وهو يعاني من إجرام العصابة المضادة له ما يثير الأسى والألم، حتى إنّه (ص) قال: "ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت". لم ينعكس ذلك على قسمات وجهه، ولا يبدو غضب في عينه. إنّ عواطف الإنسان ومشاعره لا تُعدم، ولكنها قد لا تبرز، لأنّ صاحبها له من سعة الصدر، ما يُخفي آلامه عن الآخرين. وهذه سمة الأنبياء والأولياء، ومحمد رسول الله (ص) من هذه الصفوة، وسيدهم، ولهذه الخصيصة يخاطبه الله سبحانه بقوله الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)، فهو بهذه السمة الرفيعة مقدم على خُلص عباده، وخاصّة أصفيائه.

وحين يتحمّل رسول الله (ص) مسؤولية التبليغ لرسالة الإسلام في مكة وما جاورها، يقابله المشركون بعنف وصلابة بالرفض القاطع لهذه الدعوة، ولكنّه صمد، وقابل التيار بسعة صدر، وبتصميم كبير، قال:

"والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته".

إنّ هذا الموقف الجاد يؤكد عدم التراجع عن مهمته الرسالية، مهما كلفه الأمر، رغم تصعيد الموقف من قبل المشركين والطغاة الذين أوغلوا في المستضعفين المسلمين إيذاءاً وتعذيباً، كما لم يكترث لاعتداءاتهم عليه وسخريتهم منه، كان مقابل هذا إن قال وبكلّ صراحة: "يا أيها الناس إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى".

هذه الإنسانية الكريمة لابدّ أن يجهر بها أمام هذه النماذج البطلة المؤمنة بعقيدتها، وهي تعاني كلّ أنواع التعذيب من أشداء المشركين، وفي الوقت نفسه إنّها الدفع النفسي لتقوية معنويات هذه المجموعة المؤمنة التي تجابه أنواع التعذيب من أجل عقيدتها، وتحرير إنسانيتها من قيد العبودية لطغاة قريش، وإذلالهم باخضاعهم لسطوتهم وسلطانهم.

إنّها الضربة القاصمة للطبقية المتحكمة في المجتمع الجاهلي سادةً وعبيداً وأقوياء ومستضعفين، لماذا هذا التحكم في الإنسان والله سبحانه لم يجعل فرقاً بين أبناء الجنس الواحد، إلّا بالعلم وبالسمات التي ترفع إنسانية الإنسان، إنّه عليه أفضل الصلاة والسلام يؤكد على هذه الحقيقة المركزية، حين تقول الرواية إنّه قال (ص):

"إنّ الله أذهب نخوة العرب، وتكبرها بآبائها، وكلّكم من آدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم".

هذه الثورة الإصلاحية، ثورة الإنسان المستضعف المرهق المضطهد فجرها رسول الله (ص) وهو يرعى الصفوة المعذبة، وهي تعاني أقسى ممارسات التعذيب من أولئك الذين هالهم صوت الإنسانية يلح عليهم بأنّه لا طبقية بعد اليوم، الإنسان أخو الإنسان لا فرق بينهما، إلّا بالتقوى، قال (ص) على ملأ من الناس: "إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط".

هذه اللغة الصارخة بالدعوى إلى الإنسانية المحضة، التي لا تزدري أحداً من أبناء جنسها، حتى وإن كان أسود، فاللون خلق الله سبحانه، وهو ليس ذلة، أو وسيلة للإذلال والامتهان وهذا الصوت كما يسقط الرعد على أسماع الطغاة المستغلين، كذلك ينساب قوّة في أعماق النفس الإنسانية لأولئك الضعفاء من المؤمنين بالرسالة فتحيلهم إلى طاقة هائلة من الإيمان ورسوخ العقيدة، والصبر على تحمّل مشاق العذاب الجسدي الذي يصبه عليهم جبابرة قريش.

وتستمر المسيرة، وهي تؤكد على الحقوق والكرامة، وتشيد بالنفر الصامد أمام تيار المارقين، وتهاجم الظلم والظالمين، وتصمد لكلّ عاصفة هوجاء تهب من هنا وهناك، ولكن تصميم المبلغ الرسالي كان أكبر من كلّ عاصفة، وتتحطم على أعتابها تلك القوى الطائشة الغاشمة واحدة تلو الأخرى، وهم مهشمون، ضائعون، يتهافتون فيما بعد على باب محمد (ص) الداعية المطارد، حين يفتح مكة، وتقف أمامه الجموع المرعوبة، المرهقة بذل الهزيمة وعار الخسران، وتسمع من ذلك الذي سخرت منه بالأمس قولته الشهيرة والتي ملؤها الإحسان والرأفة..

"ماذا ترون أني فاعل بكم وما تظنون"؟

فيردون عليه بقلوب محطمة، وعيون كلكل عليها الهلع: صنع أخ كريم، وابن أخ عظيم...

ويهدر الحكم الإسلامي: "أذهبوا فأنتم الطلقاء"!!

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90). وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (الزخرف/ 65). وقال سبحانه: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء/ 227). وقال عزّ وجلّ: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) (النساء/ 107). وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال/ 58).

وقال رسول الله (ص): "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره". وقال (ص) أيضاً: "لن يهلك الناس حتى يغدروا من أنفسهم". وقال (ص): "إنّ لكلّ غادر لواءُ يعرف به يوم القيامة". وقال (ص): "الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن".

وغير هذه الآيات والروايات كثير وكثير، وهي قيم الإسلام التي يدعو لها، ويؤكد عليها، فهو ثورة على المجتمع الغارق بالبغي، والعدوان، والاستغلال، والاستعباد لأنّ هذه وأمثالها، لم ترعَ حقّ الإنسانية التي جاء الإسلام من أجل رفع قيمتها، وتثبيت مقوماتها.►

 

المصدر: كتاب آفاق حضارية للنظرية السياسية في الإسلام

ارسال التعليق

Top