د. بهاءالدين سليم
لقد جاء القرآن في الأُمّة العربية التي عُرفت منذ زمن بعيد بأنها أمة ملكت ناصية البيان. وأسرار صناعة القول فبدهها وأثار دهشتها بما ألفَتْهُ فيه من بلاغة وبيان يفوق ما عهده وما عرفه العرب وهم أرباب هذه الصناعة.
إنّ هذا القرآن جاء بأسلوب متميز بين سائر الأساليب، فليس بمقدورنا أن ننعته بأنّه شعر أو نثر وإنما هو قرآن يقول الباقلاني:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (البقرة/ 18)، جاء بالصم أوّلاً، ثمّ البكم ثمّ العمي لماذا؟ لأنّ الصمم – وهو عدم السمع – ينتج عنه البكم – وهو عدم الكلام – لأنّ اللسان يحكي أشياء قد سمعها بأذنه فإن انعدم السمع انعدم عندئذ الكلام فالصمم سابق على البكم، ولاحظ فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي أنّ الحق جاء في القرآن بلفظ السمع مفرداً ولكن لفظ البصر جمعه في مثل قوله: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ) (النحل/ 78).
والعلة في ذلك أنّ الإنسان إذا كان في جماعة من الجماعات وبعد ذلك صدر صوت من الأصوات فالإنسان لا خيار له في أن لا يسمع أو يسمع لأنّه ما في بدن الأذن آلة يستطيع الإنسان أن يسدها حتى لا يسمع ولكن العين يستطيع الإنسان إذا ما كان في مجموعة من المجموعات وجاء مرءاً من المرائي إن شاء أبصره وإن شاء لم يبصره فإن شاء أن يبصره فتح عينيه وإن شاء ألا يبصره أغمض عينيه.
ويمكننا أن نحصر مجالات التصوير القرآني في ثلاثة أمور: الأوّل منها:
التصوير القرآني في مجال الترغيب والترهيب، الترغيب في ثواب الله والترهيب من عقابه، والثاني منها: القصة – بعبارة أخرى – أنّ القرآن قد حوى على قصص وردت كأمثال على سبيل العظة وهي مجال خصب للتصوير المجازي والتصوير البياني، والثالث منها: مجال الأوامر والنواهي – الحث على الخير والمعروف والعمل بها في الحياة واجتناب النواهي من فواحش وكبائر ومفاسد وعدم اقترافها وهذا المجال كذلك كان خصباً استخدم فيه القرآن التصوير الفني على أنواعه المختلفة.. ولك هذه الصورة في مجال الترغيب في الجهاد بالنفس والمال يقول سبحانه:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (البقرة/ 243).
فإنّ الله – سبحانه وتعالى – أراد الترغيب في الجهاد بالنفس والمال فمهد لذلك بذكر قصة تدل على أنّ الحذر من الموت لا يفيد لأنّ الحذر من الموت هو الذي يخيفهم من الجهاد فذكر قصة الألوف الذين خرجوا حذر الموت وهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالقتال فتقاعسوا خوفاً على أنفسهم أرسل الله عليهم وباء قضى على كثير منهم فاعتبر به من نجى وجاهد في سبيل الله شكراً على نجاته ثمّ أمر المسلمين بالقتال في سبيله في هذا التحذير ووعد من ينفق منهم شيئاً فيه بأن يضاعفه له أضعافاً كثيرة. ثمّ خذ مثلاً آخر يترجم براعة القرآن في تجسيم معانيه فإذا هي كائن حي فيه حركة وروح يقول سبحانه: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).. فهذه الآية التي تدعو إلى التوسط في الانفاق تحوي صورة حية فتعرض لنا صورة المسرف المحسور وهو يضع يده إلى عنقه مغلولة حزناً وأسفاً على تفريطه، وفي سورة الواقعة يعرض الله لنا صورة الذين آمنوا وما أعد لهم من جزاء أخروي والذين كفروا وما أعد لهم من عقاب فيقول في شأن من آمن:
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) (الواقعة/ 10-40).
فبعد أن شوق – سبحانه – الذين آمنوا بما أعدّ لهم في الآخرة جنة عامرة بالطيبات والخيرات والنعم الكثيرة عارضاً ذلك في صورة حسية رائعة فيعقبها بصورة أخرى تبين مصير الكافرين في الآخرة وما أعد لهم من عذاب مهين فيقول:
(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (الواقعة/ 41-56).. ومن عادة القرآن دائماً أن يعقب الترغيب أو صورة ما أعده من ثواب للطائعين المؤمنين المخلصين بالترهيب أو صورة ما أعده من عقاب للذين كفروا وعصموا وجانبوا جادة الحق، فقبل أن يخرج الإنسان من نشوة صورة الذين آمنوا واقباله على الإيمان طمعاً في جزائه – سبحانه – ينفره من الكفر خوفاً من عقابه فيزيده اقبالاً على الإيمان والتماس مرضاة الحق فهو تصوير نفسي يعالج نفس الإنسان وما جبلت عليه من ملكات وليس غريباً في ذلك فإنّ الله قد خلق الإنسان ويعلم ما جبل عليه من صفات وطباع.. وأراد الله أن يرغبنا في افادة الآخرين بما آتانا – سبحانه – من علم ومعرفة فيسوق لنا هذا المعنى في صورة بيانية رائعة فيقول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف/ 175-176).
فذكر نبأ عالم أتاه علم كتبه فلم يعمل به فتولاه الشيطان حتى أضله وصار مثله كمثل الكلب في خسته وذلته ثمّ ذكر أنّ هذا مثل الذين كذبوا بآياته وأمر النبي (ص) أن يقصص عليهم ذلك المثل لعلهم يتفكرون.
وثمّة صورة أخرى من صور القرآن نسوقها هنا تحثنا على استقبال نعم المنعم بالحمد والشكر يقول: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف/ 32-42). فيالها من لوحة كلامية رائعة.. إنها صورة الإنسان الذي أتاه الله من نعمه ونسي من أعطاه فتكبر على خلق الله كنوداً بالنعمة، أعطاه الله المال والولد فتكبر بهما ونسي أنّ الله هو الذي أعطاه إياها وقادر على سلبها منه فانظر إلى قوله سبحانه: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا) (الكهف/ 42)، وهو تصوير نفسي لمن يفقد النعمة، تصوير لحالة الندم على مافاته من فرصة لم يغتنمها فهي صورة حسية جميلة تبين لنا حال الندم كيف يكون شكله.. "يقلب كفيه" ويضرب كفاً على كف ندماً لأنّ المال والنعمة لم تورثاه التواضع حتى يزيده وإنما أورثاه التعالي والتكبر فكان مصير الجنتين الهلاك والفناء وقد عرض الحق هذا كله في صورة قصصية رائعة رسمت بريشة فنان خالق مبدع فاعجز في رسمه وابداعه.. وكذلك قصة أصحاب الكهف التي تبين كيف أنّ الله يحفظ الذين آمنوا من خلقه من الظالمين وأنّ الله يملك النشور قادر على البعث والحساب. فالقرآن جاء تحفة جميلة.. زاخر بألوان البيان مجازه وتشبيهه واستعارته.. ويحمل في طياته أسمى المعاني والعبر قد سكبت في ثوب قصصي جذاب مشوق، إنّه بستان لا يمل يعجّ بالأزهار والرياحين على اختلاف ألوانها وأشكالها ورائحتها.. فكان معجزة رائعة باقية.
* باحث من فلسطين، محاضر في جامعة صنعاء باليمن
ارسال التعليق