• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف نفهم سنّة الابتلاء؟

كيف نفهم سنّة الابتلاء؟

"حتى لو أطبقت الدنيا علينا أن نبقى منفتحين على  الله"

 

◄يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157).

وقال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد/ 31).

وقال سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء/ 35).

وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك/ 2). صدق الله العليّ العظيم.

في هذه الآيات تتكرّر كلمة "الابتلاء" و"البلاء"، ويؤكد القرآن الكريم في مضامين هذه الآيات وفي غيرها على أنّ الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده، وقد نقرأ في بعض مضامين الآيات: أنّ الغنى قد يكون ابتلاءً كما أنّ الفقر قد يكون ابتلاءً: (فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلا) (الفجر/ 15-17).

وإذا أردنا أن نستوحي هاتين الآيتين فإنّنا قد نجد القوة ابتلاءً كما نجد الضعف ابتلاءً، وقد نجد السلطة ابتلاءً، كما نجد العبد عن السلطة ابتلاءً.

فكيف نفهم مسألة الابتلاء؟ هل أنّ الله سبحانه وتعالى ينزل البلاء على الناس، من المصائب والمشاكل بدون مناسبة واقعية؟ ثمّ، هل إنّ البلاء عقوبة أو أنّه شيء غير ذلك؟ أو أنّه قد يكون كذلك، وقد يكون – معه – غير ذلك؟

(ولنبلونّكم) المراد منها الاختبار، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) (البقرة/ 155)، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) (محمّد 31)، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك/ 2).

إنّ حركة البلاء – في الواقع الإنساني – هي اختبار الإنسان في إيمانه، وفي حركة الطاقات الموجودة في نفسه، فالبلاء ينطلق بأسبابه، فأن تكون فقيراً فليس ذلك على أساس أنّ الله يجعلك فقيراً بشكل مباشر، ولكن فقرك ينطلق من أسباب الفقر التي أودعها الله سبحانه وتعالى في حركة المال في الواقع، وفي حركة الفرص التي يعيشها الإنسان، فأنت قد تفتقر لأنّك لا تملكُ فرصاً للعمل من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بك، وأنت قد تفتقر من جهة أنّ واقع البلد الذي تعيش فيه، من خلال جدب أرضه، ومن خلال الحصار الذي يعيشه من ناحية اقتصادية أو سياسية، يفرض عليك الفقر، وما إلى ذلك. وقد تكون غنياً من خلال أنّك ولدت من أبٍ غنيّ، أو لأنّك وجدت في بيئة تتوفر فيها فرص العمل وأسباب الرزق، ومن هنا فإنّ الفقر قد حدث بأسبابه الطبيعية التي أودعها الله في الكون وكذلك "الغنى" يحدث بأسباب طبيعية، وهكذا "الضعف" و"القوة" فقد تكون ضعيفاً في جسدك نتيجة بعض الأمراض أو نتيجة تكوينك الجسدي، أو لجهة عوامل الضعف المحيطة بك في الداخل والخارج، وقد تكون قوياً من خلال الأسباب الخارجية التي تكسبُك قوة إلى قوتك، وربما من خلال أسباب داخلية.

وقل نفس الشيء عن النجاح والفشل، والهزيمة والانتصار على مستوى الفرد أو المجتمع، فمسألة البلاء بمعنى الأحداث التي تصيب الإنسان سواءً كانت سلبية أو إيجابية، تنطلق من خلال الأسباب والسنن، فالله تعالى يقول: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل/ 112).

ويقول سبحانه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) (الرّوم/ 41). فالفساد هو تعبير عن اختلال الواقع الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الذي ينتج للإنسان مشاكل كثيرة في حياته الفردية والاجتماعية، فأنت تذوق وبال أمرك نتيجة كسبك، وتحصد ما تزرع وكما يقول المثل "مَن يزرع الريح يحصد العاصفة" فالريح إذا زرعتها ونمت تصبح عاصفةً.

وإذن، فالبلاءُ يقع بأسبابه التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون ومن خلال ما أراد أن يتحرّك فيه من سنن وقوانين، سواءً كانت هذه السنن تتحرّك في الظواهر الكونية، أو السنن التاريخية التي تتحرّك في حياة وحركة الإنسان في التاريخ والسنن الخفية المودعة عند الله مما يدخل في غيبه.

إنّ البلاء ينطلق من أسباب الواقع "الاختيارية" أو غير الاختيارية، بحيث يجعل الله الإنسان موضوعاً للاختبار والامتحان، فهو "اختبار" لك و"امتحان" لإيمانك وصبرك وشكرك، أتشكر أم تكفر، ولعلّ أوضح دلالة على هذه المسألة آيتان:

يقول الله سبحانه: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت/ 1-2)، أي لا يختبرون ولا يمتحنون، فالفتنة هنا كوسيلة للاختبار تهيِّئ لك الجوّ لأن تفتتن بها.

وأمّا قوله سبحانه: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 3). فالله تعالى يعلم ما عندنا قبل خلقنا من خلال مظاهر السلوك والعمل، ذلك أنّ الحياة هي حركة اختبار دائم وامتحان دائم (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك 2)، لتتحرك في خط التنافس والصراع والتجربة الحية. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء/ 35)، فالشر هو تعبير عن الجانب السلبي في حركة الإنسان. والخير تعبير عن الجانب الإيجابي، وكلاهما فتنة.

 

الصّمود بوجه البلاء:

وعلى ضوء هذا لابدّ لنا أن لا نسقط أمام البلاء، فليس من الضروري أن يكون البلاء عقوبة لك، فقد يكون خدمة أو نعمة، لأنّ الإنسان إذا لم يدخل التجربة الصعبة فسوف يبقى هشّاً لا يملك عزماً ولا إرادة، فكلّما جرّبت أكثر وكلّما عانيت أكثر، وكلّما اقتحمت الصعوبات أكثر، قويت أكثر.

والشباب بالخصوص يعرفون في مجال الرياضة، أنّ أحدكم إذا أراد أن يربّي عضلات حديدية بدلاً من العضلات اللبنيّة ليفوز في السباق، فكم يتألم من التدريبات العنيفة القاسية، ولكنه بعد أن ينتهي من التمارين يشعر بقوة جديدة، فكلما عشت جهداً جديداً اكتسبت قوة جديدة، فالناس الذين لا يعيشون التجربة والمعاناة، ولا يواجهون التحديات ولا يتألمون، هم الناس الضعفاء الذي لا حول لهم ولا قوّة، وهم الذين يسقطون أمام أية هبة ريح، حتى لو كانت ريحاً هادئة، لأنّهم لا يملكون التماسك.

هذه هي المسألة التي ينبغي لنا أن نواجهها، فعلينا أن نفهم أنّ الله يبتلينا لا ليعاقبنا، ولكنه يبتلينا ليقوينا (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) (النمل/ 40). فلقد أعطاني الله المال والقوة والحياة حتى يختبرني هل أشكر فأوجّه ما أعطاني في سبيل ما يحب أو في سبيل ما لا يحب؟

وعلى هذا الأساس، لابدّ لكلّ الشعوب المستضعفة والمقهورة من أن تعتبر المشاكل التي تمرّ بها سواءً من خلال الهزّات السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، أن يعتبروها موقع تجربة جديدة للصبر وللصمود وللمواجهة بما يجعلهم يتماسكون للوصول إلى النتائج الكبرى بعد وقت طويل، لأنّ النتائج الكبيرة كالحرّية والعدالة والقوّة والاستقلال والسيادة لها عمرُ حملٍ كما هو عمرُ الحمل عند المرأة، فإذا لم يكمل الجنين لتسعة أشهر يكون خديجاً (أي غير مكتمل النمو) وبعض الأهداف تحتاج إلى عشرين سنة أو خمسين سنة أو مائة سنة بحيث ينقل هذا الجيل المرحلة إلى الجيل الذي يليه، ذلك أنّنا نصنع مرحلة ونتقدّم خطوات ليأتي الجيل الجديد حتى يتابع من حيث انتهينا، وهكذا.

ولذلك فإنّ مسألة اليأس مرفوضة، فهو خلق الضعفاء والناس الذين يعيشون الحياة في دائرة مغلقة وزاوية محدودة، خصوصاً الإنسان المؤمن حيث لابدّ أن يخضرّ الأمل في قلبه حتى لو كان كلّ ما حوله جدباً.

 

نماذج متقابلة:

فنحن نلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى حدّثنا عن نموذجين في (وقعة الأحزاب):

النموذج الأوّل: (وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا) (الأحزاب/ 10-12).

والنموذج الثاني: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب/ 22).

والله يحدثنا كذلك عن الناس الذين عاشوا الاضطهاد من قبل الكافرين والمشركين والطغاة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة/ 214)، بحيث نعيش الزلزال ولا نسقط أمام الزلزال، فلابدّ أن تكون هناك عزيمة قوية، وعلينا أن نتعوّد ونتدرّب، فكما نُدرّب عضلاتنا حتى نستطيع دخول ساحة الملاكمة، لابدّ أن ندرّب عضلات عقولنا، وعضلات قلوبنا، وعضلات حركتنا بحيث نواجه المشكلة ولا نيأس.

 

الأمل الأخضر:

وكثيراً ما كنت أقول للشباب الذين هجّروا وشرّدوا وعاشوا أقسى الظروف.. خاصة وأنّ ما أكبر مشاكلنا في الشرق هي مشكلة المشردين الذين لا يجدون في بلادهم مأوى وينتشرون في أنحاء العالم، كنت أقول: إنّ علينا أن لا نسقط، ونقول: لا جدوى، فالله سبحانه يعلمنا التفاؤل إذ يقول على لسان "يعقوب" (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف/ 87)، فلقد قيل أنّه افتقده (18) سنة ولم يفقد الأمل. فإن تكون مؤمناً يساوي أن تبقى في أمل أخضر في المستقبل، وأن تكون يائساً يساوي أن تكون كافراً، لأنّ معنى اليأس أن تقول لا فائدة، بل يصل الأمر بالبعض لدرجة أن يقول: وأعوذ بالله من ذلك: (حتى الله لا يقدر على ذلك)!!، ومَن يقول بذلك ينكر قدرة الله سبحانه وتعالى، وهو أسوأ أنواع اليأس، فما دمت تعيش في قدرة الله والإيمان بأنّه على كلّ شيء قدير، وأنّه سيجعل من بعد عسرٍ يُسراً، فإذن يجب أن لا تكون يائساً أبداً.

ولذا، فإنّ علينا أن نفهم بأنّ إيماننا ليس فقط في الصلاة والصوم، وإنما من خلال تعميق العلاقة بالله بحيث لو وقفت الدنيا برمتها أمامنا لشعرنا بالقوة، ففي أوّل تجربة متحركة خارج مكة، تجربة الهجرة إلى المدينة، أراد القوم قتل النبيّ (ص) فخرج متخفياً ووصل الغار واقتصّوا أثره (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة/ 40)، في الوقت الذي لا يوجد هناك أي أساس للأمن.

وحدّثنا الله تعالى عن المؤمنين في (معركة أُحُد): (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران/ 173).

فما قيمة الناس أمام ربّ الناس، ملك الناس، إله الناس؟! (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 174-175).

ولذلك فلابدّ أن نعيش التجربة وأن نعيش المعاناة، فحتى لو أنّ الدنيا أطبقت علينا نبقى منفتحين على الله سبحانه وتعالى.

ولقد قلت لكم دائماً، وعن تجربة، إذا كنت تفكّر بالناس فإنّ الدنيا تضيق عليك، وإذا كنت تفكّر بالله سبحانه وتعالى فإنّه هو الرحمن الرحيم، وهو الكريم العطوف. ولذا فلابدّ من تعميق الإيمان بالله، وأن نكون أصحاب القضايا الكبيرة، ففي الإسلام إذا استطعت أن تحوّل الضعف إلى قوة فليس لك عذر في أن تبقيه ضعفاً (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالكفر أو بالانحناء أمام الظالمين أو بالضلال (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ) كفرنا لأنّ الأقوياء فرضوا الكفر، وضلّلنا لأنّ المستكبرين وجّهونا في طريق الضلال، وانحنينا وانحنت كلُّ إرادتنا من خلال هؤلاء، (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) إذا ضاقت عليك البلاد وحوصرت ولك أن تنطلق إلى ساحة أُخرى تتفادى من خلالها هذا الضعف وتحوّله إلى قوة فافعل وإلّا فقد تنطبق عليك هذه الآية: (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا) (النساء/ 97-98)، فهؤلاء هم الذين لا يملكون الفرصة للتخلّص من الواقع الصعب الذي يحيط بهم ويضغط عليهم فقد يأتيهم العفو من الله على سقوطهم الفكري تحت تأثير الضعف الذي يخضعون له انطلاقاً من الحصار الشامل الذي يحاصرهم بشكل شامل.

 

رياضيات مطلوبة:

وعلى هذا الأساس، فإنّ علينا أن نمارس رياضة روحية وثقافية وسياسية واجتماعية، وكلّ ذلك بحاجة إلى تدريب ومعاناة وجهاد أصغر في مواجهة العدو، وجهاد أكبر في مواجهة الشيطان وفي مواجهة النفس الأمارة بالسوء، فالمعركة مفتوحة مع الشيطان ليخرجنا كما أخرج أبوينا من الجنّة، فمنذ أن خلق الله الإنسان والشيطان، والمعركة مفتوحة مع أولياء الشيطان. (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء/ 76)، فقد يستعرض الشيطان عضلاته لكنه ضعيف. فلابدّ من تدريب دائم وشاق حتى ننجح في الامتحان الذي ليس فيه غش وإنما هو امتحان تدفع فيه من دمك وعرقك وإرادتك وتعبك ومعاناتك. وهو امتحان لا يقوم غير بأدائه.

ولذلك ففي الآية التي افتتحنا فيها الحديث هناك نتائج للصبر، سواءً كان الصبرُ صبراً سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو أمنياً أو جهادياً (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155)، أمام المشاكل والخسائر والبلايا (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) في أنفسهم وأموالهم وأهلهم وفي الواقع من حولهم، (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 156)، فما هي جائزة الله للصابرين (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، والصلاة من الله هي المغفرة والرحمة والعفو والرضوان (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 157)، فكلما صبرت أكثر، كلّما انطلقت في خط الهدى أكثر، فهل ننطلق في خط الصابرين؟ وفي آية أُخرى (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) (آل عمران/ 186)، فلا تسقطوا ولا تنهزموا ولا تتراجعوا، فالصبر حركة إرادة، وحركة عزيمة.. وحركة قوة (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (لقمان/ 17).►

ارسال التعليق

Top