◄الاختلاف والمخالفة هو "أن ينهج كلّ شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعم من الضد لأنّ كلّ ضدين مختلفان، وليس كلّ مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) (مريم/ 37)، (وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود/ 118)، (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) (الذاريات/ 8)، (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (يونس/ 93). وعلى هذا يمكن القول بأنّ الخلاف والاختلاف يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف".
فالخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، فهم يستعملون أحياناً اللفظين بمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافاً، فقد اختلفا اختلافاً.
ويقول الراغب الأصفهاني:
"والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كلّ واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأنّ كلّ ضدين مختلفان وليس كلّ مختلفين ضدين".
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح التهانوي، حيث قال:
"قال بعض العلماء: إنّ الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أنّ القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف".
إنّ مبدأ الاختلاف الفكري بين بني البشر، قديم قِدَم الإنسان على هذه الأرض، حيث أشار سبحانه بقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود/ 118). فاختلاف مدارك الناس وطباعِهم، ومصالِحهم، وبيئاتهم من جهة، واختلاف الظواهر الكونية من حولنا من ليل ونهار، وبر وبحر،... من جهة أخرى، يفرض علينا تصحيح نظرتنا إلى حقيقة الاختلاف، إذ هو آية من آيات الله في الآفاق، وفي الأنفس (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الرّوم/ 22).
ولقد أراد الله سبحانه وتعالى للناس أن يعيشوا غنى التنوع في العقل وفي الفكر وفي التجربة وفي حاجات الحياة، ومن الطبيعي أنّ اختلاف هذه الحاجات واختلاف الأفكار والتجارب لابدّ أن ينتج اختلافاً بين الناس، ولكنّ الله عندما جعل طبيعة التكوين الإنساني في الواقع الذي يعيش فيه الإنسان فرصة للاختلاف.
ومن تجليات الرحمة في آية الاختلاف، ما أثبتته الدراسات (السكيو اجتماعية) من أنّ القدرات العقلية للفرد، لا يمكنها أن تتطور إلا مع الآخر المختلِف، أي في ظل التدافع المعرفي، والجدال العلمي، بوصفه المجال الأفضل للتطور الذهني والمعرفي، وتؤكد نتائج الأبحاث الميدانية – في مجالي : التربية، وعلم النفس – على أنّ التقدم المعرفي، وإثراء الفكر، لا يحصل، إلا إذا وجد الأفراد أنفسهم في وضعيات اختلاف ومواجهة، مع أفراد متنوعي المستويات والتوجهات.
أما الخصائص التي تؤسس لحقِّ الاختلاف، فإنّها تبنى على مبدأين قرآنيين:
أحدهما: مبدأ اختلاف الآيات، وقد كثر استخدام هذا المبدأ في القرآن الكريم، وهناك عدد وافر من الآيات الكريمة تبتدئ بقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ...) (الروم/ 20-25، الروم/ 46، فصلت/ 37 و39، الشورى/ 29)، ولعل أكبر شاهد على ذلك هو اختلاف الآيات الكونية، كما جاء في الآية الكريمة: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصّلت/ 53).
والثاني: مبدأ اختلاف الناس، كما جاء في الآية الكريمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22)، والآية الكريمة: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود/ 118-119).
ولعل أكبر شاهد على ذلك هو اختلاف الأُمم، كما جاء في الآية الكريمة: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مرجعكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة/ 48).
فاختلاف الأُمم في أمزجتها النفسية والعقلية يجعل كلّ واحدة منها تتصور الوجود بصورة خاصة بها، وينشأ عن هذا شدة اختلافها في ثلاثة أشياء: في الحس أو (الشعور)، وفي العقل أو (التمييز)، وفي العمل أو (السير).
ومن غير الطبيعي النظر إلى هذا الاختلاف، على أنّه ظاهرة مَرَضية يجب القضاء عليها، لأنّ كلّ محاولة لإلغاء الآخر لن يُكتب لها النجاح، كما حدث للتجربة الشيوعية، التي حاولت بكل ما أوتيت من وسائل قمع، أن تلغي كلّ ما هو غير شيوعي، فكانت النتيجة انهيار كلّ ما هو شيوعي، وبقاء الآخر المخالف صامداً.
لقد أراد الله سبحانه "للإنسانية كلها أن تكون حرباً على الفساد من خلال الأسس التي أرساها منذ الانطلاقة الأولى لها على الأرض حتى جعل مسألة التدافع في اختلاف الأُمم والشعوب والناس منطلقاً لعمارة الأرض: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ) (البقرة/ 251)، فحملت حركة الصراع في كثير من تجلياتها عناوين الإصلاح في مواجهة الفساد".
وهذا التدافع المعرفي المثري للفكر، يتوقف على وجود اختلافات في آراء المجتمعة حول عملية اكتساب المعرفة، وكلّ ذلك متوقف على حُسْن إدارة هذا الاختلاف، وتدبيره في الاتجاه الصحيح المنتج.. يقول الإمام علي (ع):
"وأن أبتَدِئَكَ بتعليمِ كتاب اللهِ عزّ وجلّ وتأويلِهِ وشرائِعِ الإسلام وأحكامِهِ وحلاله وحرامِهِ، لا أُجاوِزُ ذلك بك إلى غَيْرِهِ، ثُمّ أشفقْتُ أن يلتَبِسَ عليكَ مَا اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ من أهوائِهِم آرائِهِم مِثْلَ الذي التَبَسَ عليهِمْ فكان إحْكامُ ذلك على ما كَرِهْتُ من تَنبيهِكَ له أحَبَّ إليَّ من إسلامِكَ إلى أمرٍ لا آمَنُ عليكَ به الهَلَكَةَ ورَجَوْتُ أن يُوَفِّقك اللهُ فيهِ لِرُشْدِكَ وأن يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ".
والاختلاف لا يمكن فهمه..
"لا بوصفه نتاجاً للعقل والتاريخ، أي بكونه قد نشأ عن اختلاف الظروف والشروط، وتفرق الأهواء، وتباين الطرق. فهو ليس علامة خطأ أو انحرف، بل شاهد على ناسوتية الشرائع والعقائد، إلا إذا اعتقدنا مع كلّ فرقة بأنّ مذهبها، وحده، هو الصحيح والمطابق للشريعة الوحي. والتسليم بذلك معناه ومآله أن يضع كلّ واحد نفسه في دائرة الإيمان، ويصنّف جماعته في حظيرة الإسلام، وأن يرمي، بالمقابل، من يخالفونه في دائرة المغايرة المطلقة، متهماً إياهم بالبدعة والضلالة، أو بالمروق والزندقة".
ويقسم السيد محمّد حسين الطباطبائي الاختلاف إلى وجهين:
الأوّل: بمعنى الخصام والجدال والمشاجرة والتفرقة البغيضة.
والثاني: بمعنى تفاوت الطبائع والتركيبة البدنية للأشخاص والاستعدادات الروحية. وبما أنّهم موزعون في بقاع الأرض ومحاطون بأجواء وظروف خاصة بهم، يظهر فيهم اختلاف السليقة والآداب والتقاليد... وهو أمر لابدّ منه ولا مناص منه، ولولاه لما عاش المجتمع البشري.
فالاختلاف والتنوع في إطار الوحدة، من أكبر حقائق هذا الوجود، فنحن مختلفون على مقدار ما نحن متفقون. والاتفاق يمنحنا إمكانات هائلة للتعاون والبناء المشترك.
فبيننا اختلافات نفسية وعاطفية وعقلية، ولكل منا نشأته وثقافته وتجربته ومصالحه وأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية، وكل هذا يمنح المشروعية للاختلاف في كثير من الأمور.
وإذا ما نظرنا إلى القرآن الكريم نظرة كلية، ألفيناه خطاباً ربانياً موجهاً إلى إنسان ذي خصوصية فكرية، وطبيعة جدلية، كما وصفه الحق سبحانه: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) (الكهف/ 54). فرسالة هذا الخطاب لم تقدم عارية عن البراهين والحُجَج، مراعاةً وتقديراً للمخاطَب المخالِف.
فالأصل في الحوار الاختلاف، ولا نتحاور إلا ونحن ضدّان، لأنّ الضدين هما المختلفان المتقابلان، والحوار لا يكون إلا بين مختلفين متقابلين هما: (المدَّعي) وهو الذي يقول برأي مخصوص ويعتقده، (المعترض) وهو الذي لا يقول بهذا الرأي ولا يعتقده. بشرط أن لا يخط له خطاً يفصل بينه وبين باقي الأفكار، بحجة أنّه هو الذي ينتج الفكر ويستحق أن ينتجه، وسواه لا يستحق أن ينتجه، ولا يفتأ يثبت أنّه على حق فيما يعتقد وغيره على باطل، وهو وإن لم ينبذ التعامل مع الأفكار الأخرى، ولكنه الاختلاف من حال (التعاون على المعروف) إلى حال (التعاون على المنكر)، فهو يلغي حق الاختلاف الفكري. فالاختلاف..
"معطى من معطيات الوجود الإنساني، يلازمه ما دام الإنسان إنساناً. فلا يمكن إزالة الاختلاف من الوجود الإنساني. ما نستطيعه هو فقط إزالة اختلافات معينة في ظروف معينة وفي ميادين معينة. وليس ذلك في حد ذلك ذاته شراً. فالاختلاف سبب الحركة والتقدم، سبب الوصول إلى مزيد من التنوع، كما أنّه يمكن أن يكون سبباً للارتباك والتخبط والضعف وعدم الاطمئنان".
فالحق في الاختلاف، وعدم شرعية التفرد بالرأي، وضرورة الاستشارة.. ثلاثة قضايا رئيسية تتنفس بها رئة العالم ولا يمكن لمخلوق أن يلغيها مهما أوتي من قوة، فالكل راد والكل مردود عليه.►
المصدر: كتاب أدبيات التعايش بين المذاهب
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق