• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قيمة العقل عند الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)

عمار كاظم

قيمة العقل عند الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)

برز الإمام الرضا (علیه السلام) على مسرح الحياة وهو يجمع (عليه السلام) ملتقى الفضائل بجمیع أبعادها وصورها، ، فلم تبقَ صفة شریفة یسمو بها الإنسان إلّا وهي من نزعاته، فقد وهبه الله كما وهب آباءه العظام وزیّنه بكلّ مكرمة، وحباه بكلّ شرف وجعله عَلماً لأُمّة جدّه، یسترشد به الضال، وتستنیر به العقول.. إنّ مكارم أخلاق الإمام الرضا (علیه السلام) نفحه من مكارم أخلاق جدّه الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله وسلم) الذي امتاز على سائر النبیّین بهذه الكمالات، فقد استطاع (صلى الله علیه وآله وسلم) بسمو أخلاقه أن یطوّر حیاة الإنسان، وینقذه من الجاهلیه، وقد حمل الإمام الرضا (علیه السلام) أخلاق جدّه التي من أولوياتها كيف نستفاد من العقل الذي أنعم الله تعالى به علينا.

يحدّثنا الإمام الرضا (عليه السلام) عن نوع آخر من الأصدقاء والأعداء. نحن نعرف أنّ الأصدقاء هم الناس الذين يوادّوننا ونوادُّهم ويعاونوننا ونعاونهم، لكنّ الإمام الرضا (عليه السلام) يقول لنا: «صديق كلِّ امرى‏ءٍ عقلُه ـ لأنّ العقل هو الذي يحدّد لك الحسنَ والقبيح، وهو الذي يفكّر لك، فيميّز بين ما يضرُّك وما ينفعك، وهو الذي يحدّد لك طريقك إلى الجنّة أو إلى النار، وقد ورد أنّ العقل «هو ما عُبِد به الرحمن وعُصِي به الشيطان» ـ وعدوّه جهله»، لأنّ هذا الجهل يحجّم عقلك ويمنعك من وضوح الرؤية للأُمور، ويسير بك عكس الطريق، ومن الطبيعي أن يكون عدوّاً لك، لأنّه يؤدِّي بك إلى الكفر والضلال والفسق والفجور، وإلى الإسراع بالخُطى إلى نار جهنّم.

فالإمام (عليه السلام) يريد أن يؤكِّد لنا قيمة العقل لدى الإنسان، والعقل هو هذه القوّة المفكِّرة التي تحسب للإنسان حسابات الأشياء بكلِّ دقّة، والتي يحصل عليها الإنسان من خلال ما يتأمّله وما يجرّبه. وعندما يعيش الإنسان مع عقله، فإنّ عليه أن يسأله عن كلِّ خطوةٍ يخطوها، وعن كلِّ كلمة يتكلّمها، وعن كلِّ علاقة ينشئها.. فالعقل هو الصديق الذي لا يحدّث الإنسان عن أرباح الدُّنيا وخسائرها فحسب، ولكنّه يحدّثه بالإضافة إلى ذلك عن أرباح الآخرة وخسائرها، لأنّ العقل يريد للإنسان السعادة والخطّ المستقيم لحياته في الدُّنيا والآخرة. ومن هنا، فإنّ الإمام الرضا (عليه السلام) يوصي الإنسان بألّا يترك صديقه الذي هو عقله ويتّبع غريزته والجهل الذي يفرضه عليه الناس، وعندما تختلط عليه الأُمور فليسأل عقله، أو عندما تضيع معالم الطريق فليسأل عقله، وليحاول أن يستعين على عقله بالشورى في ما يشاور به الرجال، حتى ينضمّ عقله إلى عقول الآخرين، وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «مَن شاور الرجال شاركها في عقولها».

وفي الحياة هناك دائماً عقلٌ وهناك جهل، والله تعالى جعل العقل حجّةً علينا يوم القيامة، حيث يحتجُّ علينا سبحانه وتعالى بعقولنا ووجداننا: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ـ أنّهم كانوا لا يعقلون ولا يسمعون الكلمة العاقلة من العقلاء عندما تنفذ إليهم ـ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/10-11). وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين لهم قلوبٌ لا يعقلون بها، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها، ولهم أعينٌ لا يُبصرون بها.. فلننطلق بكلِّ هدوء من أجل أن نستعمل عقولنا، فنحاور ونرسم الخطط من خلالها، لأنّ مشكلتنا في واقعنا الذي نعيش فيه، أنّ الجهلة الذين قد يملكون قوّة المال أو السلاح أو السلطة، هم الذين يفرضون علينا جهلهم. لذلك، لينطلق أهل العقل في المجتمع من أجل أن يجعلوا العقل هو السبيل الذي يلتقي عليه الجميع، وعلينا أيضاً أن ننمّي عقولنا، فلا نقرأ إلّا ما يفيدها، ولا ننظر إلّا إلى ما يحصّن عقولنا، ولا نستمع إلّا إلى ما يرفع مستوى عقولنا. وقد قال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (الزُّمر/ 17-18).

ثمّ إنّ العقل هو الذي يمنح الإنسان علمه بالتأمّل في موارد العلم ومصادره، وبالتجربة التي يتابعها العقل في حركة الإنسان في الواقع، ويدفع به إلى السعي والبحث والملاحقة لأسرار الحياة في نظامها الكوني وفي حياة الإنسان والدراسة للتاريخ في قضاياه التي تمنح الإنسان الدرس والعبرة والتخطيط للمستقبل الذي يقبل عليه في صناعة حياته. وهكذا يقف العقل ليقود المسيرة الإنسانية التي ترتفع بالإنسان في مجالات الاكتشاف والإبداع والتنمية لكلّ الطاقات المادّية والمعنوية. وهذا هو الذي يجعله الصديق الأوفى للإنسان عندما يتحرّك معه في كلِّ أُموره وقضاياه ويشرف على حاضره ومستقبله.

ارسال التعليق

Top