• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فيض الرّحمة الإلهيّة

عمار كاظم

فيض الرّحمة الإلهيّة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 54). وقال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَالْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56).

يريد الله تعالى في هاتين الآيتين، أن يؤكّد أنّ العنوان الأساس الّذي ينبغي أن يتصوّر الإنسان به ربَّه هو عنوان الرّحمة، فهو الرّحمن الرّحيم الّذي كان الوجود كلّه مظهراً من مظاهر رحمته، ليشعر الإنسان ـ دائماً ـ بقربه من الله، من خلال حركة الرّحمة التي وسعت كلّ شيء، وبأنّ رحمة الله قريبةٌ من جراحه لتضمّدها، ومن آلامه لتخفّفها، ومن همومه لتكشفها، ومن جوعه لتُشبعه، ومن عطشه لترويه، ومن ذنوبه لتغفرها، ومن طموحاته لتحقّقها، ومن خطواته لتسدّدها، ومن مسيرته لتصوّبها، ومن كلّ مصيره لتفتحه على مواقع الرّضوان في الدّنيا والآخرة.

وهكذا تقترب رحمة الله من صلاة الإنسان لترفعها، ومن دعائه لتسمعه وتجيبه، ومن عمله لتتقبّله، بما يشعر معه الإنسان بأنّه لا يستقلّ بعملٍ من دون رحمة الله تعالى، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أما إنّه لا ينجي إلا عملٌ مع رحمة». وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما خلق الله من شيء إلا وقد خلق له ما يغلبه، وخلق رحمته تغلبُ غضبه».

وهكذا كانت الرّحمة هي العنوان الّذي أراده الله تعالى لنبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال عزّ وجلّ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128)، وهو الّذي امتدّت رحمته لتتوجّه إلى الإنسان كلّه، فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).

 

رحمة الخلق

وهكذا نستوحي من كلّ ذلك، أنّ على المسلم أن يعيش في أفق الرّحمة في حياته للناس من حوله، وهي التي تمثّل الوصيّة التي يتواصى بها المجتمع الإسلامي، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد/ 17). وهو ما أكّده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمّا قال له رجل: أحبّ أن يرحمني ربّي، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمْك الله». وعن عليّ (عليه السلام): «من لم يرحم الناس منعه الله رحمته». وهكذا ينطلق الإنسان المسلم في حياته بالرحمة، ويتحرّك معها بالحكمة التي تضع الرحمة في مواضعها؛ لأنّ في الناس من يضرّهم اللّين، فتكون الرّحمة بهم أن نقسو عليهم ليستقيموا، وأن نشتدّ عليهم ليرجعوا، وهذا ما أشار إليه عليّ (عليه السلام) بقوله: «رحمة من لا يرحم تمنع الرّحمة، واستبقاء من لا يُبقي يُهلك الأمّة».

 

الانفتاح على رحمة الله

علينا أن نعيش في أنفسنا الانفتاح على رحمة الله سبحانه وتعالى، فلا نيأس منها، ولا ندع حتى الذين ارتكبوا المعاصي مهما بلغت من أن ييأسوا، وإن كان كما جاء في الآية الكريمة: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء(، ويبقى علينا أن نطلب من الناس أن يتوبوا إلى الله وأن يطلبوا رحمته من خلال ذلك. وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى عن رسوله أنّه يمثل الرحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، لأن ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يمثل رحمة لعقول الناس ولقلوبهم ولحياتهم في الدنيا وفي الآخرة، ولأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيّ الرحمة الذي امتلأ قلبه رحمة بالناس، فكان قلبه يبكي على الناس الذين لا يؤمنون، لا من جهة أنّهم لم يستجيبوا له من ناحية ذاتية، بل لابتعادهم عن طريق الحقّ وعن طريق رضى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الله يسليه ويقول له: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)، وهكذا رأينا كيف أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحرك برحمته، فلان لسانه وقلبه للناس الآخرين: (فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).

 

المجتمع المؤمن متراحم

نقرأ في قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)، ونستوحي من هذه الآية أن الله يريد من المجتمع المسلم أن يكون المجتمع المتراحم الذي يرحم بعضه بعضاً، فلا يعيش المسلم القسوة ضد المسلم الآخر، في نفسه، وفي نيته، وفي كلمته، ولا في معاملاته وفي علاقته به، بل يكون شأنه معه الرحمة له في كلّ قضاياه، وفي كلّ نقاط ضعفه.

وعلى هذا الأساس، لابدّ أن يكون مجتمعنا مجتمعاً متراحماً، فلنبدأ من بيوتنا بالمودة والرحمة، علينا أن نشعر دائماً ونحن في البيت أن الله تعالى يراقب كلّ أفعالنا وأقوالنا وتصرفاتنا مع بعضنا البعض، فلا ينطلق الإنسان من موقع أنه الأقوى من أجل أن يظلم الأضعف، وقد جاء في الحديث: «إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله»، وبذلك نستطيع أن ننشئ أسرة مسلمة منفتحة على الحق وينشأ أولادنا ومجتمعنا على هذا الخط، وقد ورد في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ملعون ملعون من ضيّع من يعون»، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم الله عليه بنعمة فليوسّع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة».

ارسال التعليق

Top