أما الشكر فهو عرفان النعمة من المنعم والفرح به والعمل بموجب الفرح باضمار الخير والتحميد لله واستعمال النعمة في طاعته.
أمّا المعرفة فبأن يعرف أنّ النعم كلّها من الله تعالى وأنّه هو المنعم والوسايط مسخرون من جهته، وإنما الذي أنعم عليك هو الذي سخرهم لك وألقى في قلوبهم من الاعتقادات والإرادات ما صاروا به مضطرين إلى الايصال إليك، فمن عرف ذلك فكانت معرفته شكر الله وهذا هو الشكر بالقلب.
وأما الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضع فهو أيضاً في نفسه شكر على حدة كما أنّ المعرفة شكر، فإن كان فرحك بالنّعم خاصة لا بالنعمة ولا بالأنعام ومن حيث إنّه تقدر بها على التوصّل إلى القرب منه والنزول في جواره، فهو الرّتبة العليا في الشكر، وأمارته أن لا تفرح بالدنيا إلا بما هو مزرعة الآخرة ومعينة عليها، وتحزن بكلّ نعمة تلهيك عن ذكر الله وتصدك عن سبيله، وهذا أيضاً شكر بالقلب.
أمّا العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم، فهو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه ويتعلّق بالقلب واللسان والجوارح أما بالقلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق وأما باللسان فاظهار الشكر لله بالتحميد الدال عليه وأما بالجوارح فاستعمال نعم الله في طاعته والتوقي بالاستعانة بها على معصيته حتى أنّ من شكر العينين أن تستر كلّ عيب تراه بمسلم، ومن شكر الأذنين أن تستر كلّ عيب تسمعه لمسلم، فيدخل هذا وأمثاله في جملة شكر نعمة هذه الأعضاء.
بل نقول: ومن كفر نعمة العين فقد كفر نعمة الشمس أيضاً إذ الأبصار إنما يتم بهما وإنما خلقتا ليصبر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقي بهما ما يضرّه فيهما، بل نقول: المراد من خلق الأرض والسماء وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين الخلق بها على الوصول إلى الله، ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا والتجافي عن غرور الدنيا، ولا أنس إلا بدوام الذكر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدّوام على الذكر والفكر إلا ببقاء البدن، ولا يبقى البدن إلا بالأرض والماء والهواء (والنّار)، ولا يتم ذلك إلا بخلق الأرض والسماء وخلق ساير الأعضاء، وكلّ ذلك لأجل البدن والبدن مطية النفس والراجع إلى الله هي المطمئنة بطول العبادة والمعرفة.
فكلّ من استعمل شيئاً في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لابدّ منها لإقدامه على تلك المعصية قال الله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ/ 13)، وقال عزّ وجلّ: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (النساء/ 147).
وعن الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): "الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصايم المحتسب، والمعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلي الصابر، والمعطي الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع".
وعنه (ع) قال: "من أعطي الشكر أعطى الزيادة" قال الله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7)، وعنه (ع) قال: "ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفعها بقلبه وحمد الله ظاهراً بلسانه فتم كلامه حتى يؤمر له بالمزيد".
وعن الباقر (ع) قال: "كان رسول الله (ص) عند إحدى زوجاته فقالت: يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال (ص): ألا أكون عبداً شكوراً قال: وكان رسول الله (ص) يقوم على أصابع رجليه فانزل الله سبحانه (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2).
وعن الصادق (ع): "شكر النعم اجتناب المحارم وتمام الشكر قول الرجل الحمد لله ربّ العالمين".
وسُئل (ع): "هل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: نعم، قيل: ما هو؟ قال: يحمد الله على كلّ نعمة عليه في أهل ومال وإن كان فيما أنعم عليه في مال حقّ أداه ومنه قوله سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (الزخرف/ 13)، ومنه قوله: (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (المؤمنون/ 29)، وقوله: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) (الإسراء/ 80).
وعنه (ع) قال: كان رسول الله (ص) "إذا ورد عليه أمر يسرّه قال: الحمد لله على هذه النعمة، وإذا ورد عليه أمر يغتم به قال: الحمد لله على كلّ حال".
وعن الباقر (ع) قال: "إذا ذكر أحدكم نعمة الله فليضع خدّه على التراب شكراً لله، فإن كان راكباً فلينزل وليضع خدّه على التراب، وإن لم يكن يقدر على النزول للشهرة فليضع خدّه على قربوسه (حنو السّرج)، فإن لم يقدر فليضع خدّه على كفه ثمّ ليحمد الله على ما أنعم عليه".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق