العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
(خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن/ 14-30).
معاني المفردات:
(صَلْصَالٍ)؛ الصلصال: الطين اليابس غير المطبوخ، فإذا طبخ فهو الفخار.
(مَّارِجٍ): اللهب الخالص من النار، أو المختلط بسواد.
(مَرَجَ)؛ المرج: الحاجز بين الشيئين.
(الجَوَارِ): أي السفن الجارية.
(المُنشَئَآتُ): المرفوعات.
(كالأعْلَامِ): كالجبال.
بين خلق الإنسان من صلصال وخلق الجان من نار:
(خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) والظاهر أنّ المراد به آدم أبو البشر الذي خلقه الله من الصلصال – كما قيل – وربما كان المراد من الإنسان نوعه، ليكون المراد من خلقه من الصلصال انتهاء الخلق إليه. (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) وهو غيبٌ من غيب الله الذي ابتدع وجودهما، وهو العالم بما خلق في طبيعته وعناصر وجوده، ووجودهما ذاك دليل على عظمة إبداع الله، في تحويل الطين اليابس إلى وجودٍ إنسانيٍّ حيٍّ فاعلٍ مفكرٍ متحركٍ بالإرادة، وتحويل اللهب الناريّ إلى مخلوقٍ حيٍّ واعٍ مفكر في وجوده الحافل بالأسرار، وإذا كنا لا نعرف الكثير من الجانّ، فإننا نعرف عنه – من خلال القرآن – أنّه خلقٌ خفيٌّ مسؤولٌ في كلّ قضايا الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في ما تدركانه من خصوصية وجودكما في هذا السرِّ الإلهي العجيب الذي يفرض عليكما أن تصدّقا به، لأنّه يمثل حضور الحقيقة في حضور الوجود في الذات؟!
(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قد يكون المراد بذلك مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما، وربما كان المراد اختلاف مشرق الشمس ومغربها تبعاً لاختلاف مواقع الكرة الأرضية، وربما كان المراد مشرق الشمس في الصّيف، ومشرقها في الشّتاء، وكذلك مغرباها، لاختلافها في ذلك... (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في ما توحي به هذه الظاهرة العجيبة من نِعَمٍ تتنوّع فيها الحياة؟!
مرج البحرين يلتقيان:
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) المراد بالبحر الماء الكثير عذباً كان أو غيره، والظاهر أنّ المراد بالبحرين، العذب الفرات والملح الأجاج، وذلك كما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (فاطر/ 12).
وقيل: "إنّ المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريباً من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من البحار المحيطة وغير المحيطة، والبحر العذب المدّخر في مخازن الأرض التي تنفجر الأرض عنها، فتجري العيون والأنهار الكبيرة، فتصبّ في البحر المالح، ولا يزالان يلتقيان". (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) أي لا يطغى المالح على الحلو ليحوّله إلى مالح تبطل الحياة به، ولا يطغى الحلو على المالح، ليحوّله إلى حلو، فتبطل بذلك مصلحة ملوحته، بل يبقى لكل منهما حدوده خصوصيته في نطاق الحاجز الخفيّ الخاضع لقدرة الله، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) أي من هذين البحرين المختلفين في العذوبة والملوحة، وقد تحفَّظ البعض على وجود اللؤلؤ والمرجان في البحر العذب، وأجاب البعض بأن هناك دلائل على وجودهما فيه، وقد تقدم الكلام حول هذا الموضوع في تفسير الآية الثانية عشرة من سورة فاطر، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) مما يتعلّق بهذه الظاهرة العجيبة؟!
وقد ذكر في طبيعة اللؤلؤ والمرجان بعض الخصائص التي قد نحتاج إلى معرفتها كدليل على عظمة خلق الله: "لعل اللؤلؤ أعجب ما في البحار، ويختلف هذا الحيوان عن الكائنات الحية في تركيبه وطريقة معيشته، فله شبكة دقيقة كشبكة الصياد، عجيبة النسج، تكون كمصفاةٍ تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه، وتحول بين الرمال والحصى وغيرها. وتحت الشبكة أفواه الحيوان، ولكل فمٍ أربع شفاه، فإذا دخلت ذرة رمل، أو قطعة حصى أو حيوان ضار عنوةً إلى الصدفة، سارع الحيوان إلى إفراز مادةٍ لزجةٍ يغطيها بها، ثمّ تتجمد مكوّنةً لؤلؤةً، وعلى حسب حجم الذرة التي وصلت يختلف حجم اللؤلؤة... والمرجان من عجائب مخلوقات الله، يعيش في أبحار على أعماق تتراوح بين خمسة أمتار وثلاث مائة متر، ويثبت نفسه بطرفه الأسفل بصخر أو عشب. وفتحة فمه التي في أعلى جسمه محاطةٌ بعدد من الزوائد يستعملها في غذائه.. فإذا لمست فريسة هذه الزوائد – وكثيراً ما تكون من الأحياء الدقيقة كبراغيث الماء – أصيبت بالشلل في الحال، والتصقت بها، فتنكمش الزوائد وتنحني نحو الفم، حيث تدخل الفريسة إلى الداخل بقناةٍ ضيّقة تشبه مريء الإنسان.
ويتكاثر هذا الحيوان بخروج خلايا تناسلية منه، يتم بها إخصاب البويضات، حيث يتكوّن الجنين الذي يلجأ إلى صخرةٍ أو عشبٍ يلتصق به، ويكوّن حياةً منفردةً، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأصلي. ومن دلائل قدرة الخالق، أن حيوان المرجان يتكاثر بطريقة أخرى هي التزرّر. وتبقى الأزرار الناتجة متّحدةً مع الأفراد التي تزرّت منها، وهكذا تتكون شجرة المرجان التي تكون ذات ساقٍ سميكةٍ، تأخذ في الدقة نحو الفروع التي تبلغ غاية الدقة في نهايتها. ويبلغ طول الشجرة المرجانية ثلاثين سنتيمتراً. والجزر المرجانية الحيّة ذات ألوان مختلفةٍ، نراها في البحار صفراء برتقالية، أو حمراء قرنفليّة، أو زرقاء زمردية، أو غبراء باهتة، والمرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحيّة من الحيوان وتكون الهياكل الحجرية مستعمرات هائلة.
ومن هذه المستعمرات سلسلة الصخور المرجانية المعروفة باسم الحاجز المرجاني الكبير الموجود بالشمال الشرقي لأستراليا. ويبلغ طول السلسلة ألفاً و35 ميلاً وعرضها 50 ميلاً. وهي مكوّنة من هذه الكائنات الحية الدقيقة الحجم".
وله الجوار المنشآت في البحر:
(وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ) وهي السفن البارزة في البحر الذي يتساوى سطحه بحيث يبرز بوضوح كلّ شيء يتحرك فيه، ولذلك تبدو هذه السفن للرائي من بعيد تماماً (كالأَعْلَامِ) وهي الجبال التي تتراءى للناظر عن بُعد، وربما كان التشبيه بلحاظ ارتفاعها وضخامتها، كما في السفن الضخمة، وإذا كانت السفن من صنع الإنسان بشكل مباشرٍ، فإن نسبتها إلى الله واعتبارها من آلائه، يعود إلى كونه ألهم الإنسان صنعها، وأودع في أجواء البحر القوانين التي تسهّل مهمّة جريانها، أمّا مكمن النعمة فيها، ففي تيسيرها سبل الانتقال للناس من مكانٍ إلى مكان.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) وإذا كانت المسألة في نعم الله بهذا الوضوح الذي يفرض نفسه على الحسّ والوجدان، فلابدّ لكما من الاستغراق في عظمة الله والانفتاح على مواقع طاعته وعبادته...
كلُّ من عليها فانٍ:
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فستموت كل هذه المخلوقات الحية التي تدب على الأرض وستنتقل إلى عالم آخر يواجه فيه الجن والإنس نتائج مسؤولية ما اكتسباه على الأرض، وهذا هو سرّ العظمة في قدرة الله، الذي أبدع الخلق بقوّته، ودبّره بحكمته، ثمّ أماته بقدرته، في نطاق خطة حكيمة جعلت للحياة وللموت حدوداً (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ)، فهو الحقيقة الأزلية الخالدة التي لم تنطلق من موقع الحدوث والخلق، ليمكن أن يعرض الفناء عليها، وذكر وجهِ الله كناية عن ذاته المقدسة، لأن وجه الشيء هو الذي يعبر عنه، وقد يكون في التركيز على صفتي الجلال والإكرام إشارة إلى معنى العظمة التي تختزنها كلمة الجلال وما توحي به من هيبة، وإلى معنى النعمة في روح العطاء التي تتضمنها كلمة الإكرام وما توحي به من رحمة.
(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) لأنّ وجودهم بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة مفتقر إليه، وبذلك يكون السؤال من خلال التعبير الحسي تارةً، ومن خلال الحاجة الوجودية الطبيعية أخرى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فهو المهيمن على كل الأشياء، وكل الشؤون، لا يتجمَّد تصرفه في موقع ولا يقف عند حدٍّ، وهو يدير الكون كل يومٍ بطريقة تمليها شؤونه المتجددة، مما يجعل أفعاله تتجدّد وعطاياه تتنوّع في صنع الوجود في ما يحتاج إلى الوجود، وفي تدبير ما يحتاج إلى التدبير، وقد جاء في رواية الصادق (ع)، عن آبائه – عليهم السلام –، أنّ النبي محمَّداً (ص) قال: "الله تعالى كل يوم هو في شأن، فإن من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين"، وهو من باب الحديث عن المصاديق.
المصدر: كتاب من وحي القرآن/ المجلد الحادي والعشرون
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق