• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فنّ التعامل في المجتمع المسلم

فنّ التعامل في المجتمع المسلم

◄لو أردنا أن نضع لافتة كبيرة في مدخل هذا الموضوع، فهل سنجد أفضل وأعمق وأكثر إيحاءً من اللّافتة التالية :

"يا بنيّ! اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلِم كما لا تُحب أن تُظلَم، وأحسِن كما تُحبّ أن يُحسَن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضِ من الناس ما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإنّ قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك" .

إنّها ـ باختصار ـ تقول لنا: اجعلوا المقياس بينكم وبين الناس أنفُسكم، فالإيجابي بالنسبة لها إيجابي بالنسبة لهم، والسلبي بالنسبة لها سلبي بالنسبة لهم. فلو أخذنا بهذه النصيحة الذهبية، ترى ماذا يمكن أن نحصل عليه؟

1- بالعمل بهـذه القاعدة نصبح العادلين، والعدل هو غاية الإنسانية كلّها، فليس خلق أرفع وأجمل وأنفع من العدل يسود بين الناس. فأنت حسب هذه القاعدة لا تنتظر العدل يأتيك من الآخرين، بل إنّك تبادر إليه لتكون أوّل عامل به، وبطبيعة الحال فإنّ الخير يستجلب الخير، وإنّ العدلَ يدفع إلى عدل مثله .

2- بالعمل بهذه القاعدة الثمينة، نكون قد حوّلنا ساحة الحياة الواسعة من ساحة مزروعة بالألغام والمتفجرات، إلى ساحة تكثر فيها الواحات الجميلة والخمائل النضرة، أي أنّها تتحوّل إلى جنّة مصغّرة .

فحين يكون الآخرُ ـ أخاً وصديقاً وزميلاً أو أيّ إنسان آخر ـ نصب عيني.. أستذكره في غضبي ورضاي، وأعرف ما يزعجه ـ من خلال ما يزعجني ـ فلا آتي به، وأعرف ما يحبّه من خلال ما أحبّه وأرضاه، فأفعله، فإنّني أكون أحد الساعين إلى تحويل جفاف الحياة إلى جنّة وارفة الظِّلال، تجري فيها الأنهار، وتحلِّق الفراشات، وتعبق الأزاهير .

يُضاف إلى ذلك، أنّ هذه القاعدة ليست إسلامية فقط، إنّها إنسانية أيضاً، والإسلام ـ كما هو معلوم ـ إنساني في كلّ ما جاء به، فحتى أبناء الديانات الأُخرى يدينون بهذه القواعد الأخلاقية والاجتماعية، بل إنّ بعض أخصائيّي علم النفس والاجتماع يدعون إلى الأخذ بها في مجال التهذيب الاجتماعي وتطوير العلاقات الإنسانية .

يقول مدير معهد العلاقات الإنسانية الأهلي في نيويورك (جيمس بندر): "القاعدة الأُولى التي وصفها الحكماء هي تلك التي تمثَّلت في القول الخالد: أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك"، فهو يُصدِّر بها لائحة القواعد التي تساعد على اجتذاب الناس، ويعتبرها الخطوة الأُولى والمهمّة في الطريق إلى "الشخصية الجذّابة" .

ويقول صاحب كتاب "كيف تكسب الأصدقاء؟!" (دايل كارنيجي): "أظهر ما استطعت من اهتمام بالناس، فهو ثروتك التي تزداد نموّاً كلّما أنفقت منها".

فهل أنّ الطريق إلى الشخصية الإسلامية الاجتماعية الجذّابة.. تلك التي تُحبُّ وتُحَبُّ.. تحبّ الناس ويحبّها الناس.. سالكة؟!

بكلّ بساطة نقول: نعم .. ولكن !

وكلمة (ولكن) الاستدراكية كثيراً ما تقلب الصورة، لكنّها هنا مجرد تنبيه إلى أنّ الـ(نعم) تحتاج إلى جهد معين نبذله في طبيعة التعامل مع الآخرين حتى نحسنه ونتقنه ونجيده، تماماً كما هو تعلُّم أيّة مهارة من المهارات، ففنّ التعامل الاجتماعي شأنه شأن أي فنّ من الفنون لا يتأتّى بالتمنّي، إنّما هو حصيلة نشاط يبذله الشاب أو الشابة، وقد يبدو في البداية ـ كما هو طبيعة البدايات ـ صعباً لمن لم يتعوَّده، لكنّه مع مرور الأيّام وتكرار التجربة والابتهاج بحصادها الوفير، سيشكِّل متعة نفسية واجتماعية وروحية ما بعدها متعة، يوم تجد أنّك وقد فتحت أحضانك للناس من حولك لتقوم لهم: أنا على استعداد إلى أن أضمّكم إلى قلبي.. وها أنذا أفعل !!

ستجد أنّ الأحضان المقفلة التي سبق أن واجهك بها الآخرون، لا تلبث أن تتفتّح بمجرّد أن تستشعر صدق حبّك واحترامك لها.. فليس أجذب إلى الحبّ من الحبّ، وإلى القلبِ من القلب، وإلى الألفة من الألفة، وإلى حُسن المعاشرة من حُسن المعاشرة. يقول حكيم مجرّب: "أصحاب العقول حسّادهم كثيرون، أمّا أصحاب القلوب فأصدقاؤهم كثيرون" !!

وباعتراف جميع الأُمم، على اختلاف مشاربها، فإنّ الإنسان كائن اجتماعي يألف ويؤلف، حتى أنّه لو عاش لوحده فترة من الزمن لاستوحش، فهو في حاليَّ ـ السعادة والشقاء ـ يحتاج إلى مَن يعيش معه دمعته وابتسامته، فيبادله فرحاً بفرح وحبّاً بحبّ، وهمّاً بهمّ وحزناً بحزن .

ومن هنا، فإنّ مقولة "الجحيم هم الآخرون" التي أشاعها بعض أُدباء الغرب قد تنطلق من واقع يفتقر إلى دفء العلاقات الاجتماعية، ومن وطأة الإحساس بالمشاكل التي يخلقها المجتمع غير المؤمن، ومن أجواء المنافسة غير الشريفة التي تدفع أحياناً إلى تحطيم الآخر وإزاحته من الطريق بكلّ الوسائل والطُّرق .

إنّ الإنسان المؤمن الذي يتّسم باللباقة واللياقة والدماثة لا يعيش هذه النظرة السوداوية للآخرين، فهم قد يسبّبون لنا المتاعب، لكنّنا ـ بشيء من الحكمة وشيء من الصبر وشيء من المواظبة ـ نعرف كيف نجعلهم أصدقاء .

فممّا ينقل عن الرئيس الأميركي الأسبق (إبراهام لنكولن) أنّ سيِّدة سمعته يثني على أعدائه، فسألته متعجّبة: أتخصّ بهذا الثّناء أعداء تسعى إلى تحطيمهم؟! فقال: أوَ لستُ أحطّمهم يا سيِّدتي حين أجعلهم أصدقائي؟!

وقبل أن يكون (لنكولن) فقد تحرّك الأنبياء (ع) وسيِّدهم النبيّ المصطفى (ص) في اتّجاه كسر عداوة الخصوم وإحالتهم إلى أصدقاء، وبهذا النهج أيضاً تحرّك الأئمّة والأولياء الصالحون، حتى لقد تحوّل الكثير ممّن يحملون الضغينة في صدورهم إلى أصدقاء وأولياء يحملون الحبّ والولاء في قلوبهم لمن ناصبوهم العداوة والبغضاء .

إنّه مبدأ إنساني عظيم ذاك الذي يواجه الإساءة بالإحسان، فهو إذ يصرع الإساءة فيجعلها ترفس كالذبيحة حتى تلفظ أنفاسها، يرفع من قيمة المُحسن إلى درجة العفو الغفور، وذلك خلق من أخلاق الله التي يجدر بنا كمسلمين أن نتخلّق بها .

جاء في الحديث الشريف: "افعل الخير مع أهله ومع غير أهله، فإن لم يكن من أهله فأنت من أهله". فبهذا الأسلوب الأخلاقي الرفيع ينتقل أحدنا من درجة (العدواني المحارب) إلى درجة الذين ينشدون الحبّ والخير والسلام للآخرين، والدرجة الأولى قاتلة بينما الدرجة الثانية باعثة على الحياة .

وعلى هذا، فإذا أردنا مقياس رقيّ مجتمع ومستوى إنسانيّته وحضارته، فإنّنا ننظر إلى كيفيّة تعامله الاجتماعي، فإذا كانت قواعد السلوك وآدابه تحكم العلاقات بين أبنائه فإنّنا نحكم على أنّ المجتمع يدرج في مدارج الرقيّ، وأنّ أبناءه الذين يراعون قواعد السير الاجتماعي كما يراعي سائقو السيّارات قواعد السير المروري، هم على جانب من الوعي الحضاري التواصلي الراقي.

ويُخطئ مَن يظنّ أنّ القواعد والضوابط والآداب الأخلاقية تُقيِّد الفرد وتعيق حركته في المجتمع، أو أنّها تتعارض مع معنى الحرّية، فإشارات المرور هي لضبط حركة السير، وتقليل نسبة الحوادث المؤسفة، وللحفاظ على السلامة العامّة، لا لشلّ الحركة المرورية، وكذلك قواعد السلوك فإنّها تبعث على الشعور بالأمان والتناغم والتحابب وحُسن المعاشرة وسعادة الجميع .

إنّنا إذاً اجتماعيون بطبعنا، وهذا ما أكَّدت عليه أحاديث شريفة كثيرة، منها: "مَن يُخالط الناس ويصبر على آذاهم خير ممّن لم يخالط الناس ولم يصبر على أذاهم"، وفي حديث آخر: "خالط الناس ودينك لا تكلمنّه"، وفي آخر: "الانقباض من الناس مكسبة للعداوة".

فهناك إذاً دعوة إسلامية واسعة النطاق لأن نُنشئ شبكة من العلاقات السليمة الحسنة مع الدائرة الإسلامية الأوسع، وليس فقط مع المسلمين من أبناء ديننا، شريطة الحفاظ على تعاليم وقيم وأخلاق ديننا الإسلامي وقواعده الشرعية .

فالذي يهرب من الناس مؤثراً العزلة، والذي يلقي بمشاكله على شمّـاعة الآخرين ويعتبرهم "الجحيم" ويتذمَّر من سوء تعاملهم وسلاطة ألسنتهم لا يريد أن يعيش الواقع، وهو حريّ به أن يشعل شمعة أو شمعتين  بدلاً من أن يبقى يطارد الظلام بلعناته التي لا تزيح أنملة من عتمة.

قال موسى (ع) يناجي ربّه: "ربّ نجِّني من ألسنة الناس. قال: يا موسى! أنت تطلب شيئاً لم أصنعه لنفسي". وفي القصة الشهيرة التي تتحدَّث عن أب وابن وحمارهما عبرة لمن يريد أن يعتبر، فكيفما تعاملا مع حمارهما لم يرضَ الناس عنهما، فرضا الناس غاية لا تُدرك .

شيء واحد يمكن أن يرضي الناس عنك، ويجعلهم يأنسون بك وتأنس بهم هو إنصافهم من نفسك ومخالقتهم بخلق حسن. فلقد أتى أعرابي من بني تميم النبيّ (ص) فقال له: اوصني. فكان ممّا أوصاه به: "تحبّب إلى الناس يحبّوك"، وعنه (ص): "إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم"، وهذا ما استوحاه الشاعر في قوله :

لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليُسعدِ النطق إن لم يُسعدِ الحالُ

ولذا جاءت الدعوة الإسلامية الرائدة إلى أن نكون دُعاة للناس بغير ألسنتنا، فالتقوى دعوة إسلامية، والورع دعوة إسلامية، والمعاشرة الطيِّبة بالتي هي أحسن دعوة إسلامية، والصدق في الحديث، والمعاملة المخلصة، والرفق، وإنصاف الناس وعدم بخسهم أشياءهم، كلّها دعوة إسلامية بليغة ومؤثرة أعمقَ التأثير بما لا تستطيع أن تفعله الكلمات أنّى كانت على جانب من البلاغة .

فلقد أثّرت صُحبة عليّ بن أبي طالب (ع) ليهودي يسكن خارج الكوفة في تشييعه له إلى حيث يسكن، في نفسية ذلك اليهودي الذي تعجَّب من هذا الخلق الذي تعلَّمه عليّ (ع) من رسول الله (ص) فكان مدعاة لأن يُسلم على يديه، وفي بعض أمثال الشعوب: "الأعمال تتكلّم بصوت أعلى من الأقوال ".

ومن المؤسف هنا، أنّ بعض شباننا وشاباتنا يتّخذون أحياناً من الأمثلة والنماذج السيِّئة قدوة لهم، فيفقدون بذلك اعتبارهم الاجتماعي بين الناس ويرتضون لأنفسهم التبعية السلبية المرفوضة والمذمومة، فقول "حشر مع الناس عيد" هو قول "الإمّعة" الذي يقول: أنا من الناس وأنا واحد من الناس، وقد نهى رسول الله (ص) أن يكون المسلم إمّعة لا يعرف نجد الخير من نجد الشرّ، فالإمّعة هو أخو ذاك الشاعر الجاهلي الذي يقول :

وما أنا إلّا من غُزيّة إنْ غوتْ *** غويتُ وإن ترشد غُزيّة أرشدِ

فمن بين أُصول هذا الفن (فنّ التعامل مع المجتمع) أن تكون قدوة غيرك في الخير، وإذا كان لك أن تتأسّى فبأولئك الذين هداهم الله، وأحسن خُلقهم، وطيب معاشرتهم، ونفع بصُحبتهم، ودعا إلى الاهتداء بهديهم (أُولئِكَ ا لَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام/ 90).

عن معاوية بن وهب، قال: قلت لجعفر الصادق (ع): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟ قال (ع): "تنظرون إلى أئمّتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنّهم يعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدِّون الأمانة إليهم".►

ارسال التعليق

Top