لم تحظَ كثير من العبادات والطقوس الدينية بمثل ما حظيت به مفردة الدُّعاء على صعيد النظرية، والتطبيق العملي، وذلك عبر ما يُمكن ملاحظته من حشد الكثير من الآيات، والروايات التي جاءت بها مصادر الشريعة الإسلامية، فتناولت هذه الممارسة العبادية المُقدّسة من كلّ أبعادها، ووجوهها من تعريف وبيان أهمية وشروط آداب الدعاء. ولكن نود الإشارة هنا إلى ركن مهم من أركان الدُّعاء والذي يشكِّل الأساس الرصين الذي تقف عليه هذه الشعيرة، وهو جواز الدخول إلى حظيرة الداعين الذين يحبّ الله أن يسمع أدعيتهم، ويستجيب لهم بل فمنّ لهم بالإجابة لإخلاصهم في الدُّعاء.. والإخلاص هو خُلوص النيّة، وتصفيتها، وتخليصها من كلّ شائبة وكدر، مثل الرياء، والسمعة، وحبّ الجاه، والظهور وغير ذلك وجعلها صافية، نقية يصعد دعاؤها مقبولاً، مرضياً عند الله سبحانه، قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر/ 10).
إنّ معنى ذلك أنّ الله إنّما يستجيب ويتقبّل دعوة الداعي حقيقة، أي الذي أخلص في دعائه، وكان صادقاً مع نفسه، وهو يخاطب ربّه سبحانه، وإلّا فمن لم يُخلص في دعائه، ولم يُصلح سريرته فهو في واقع الأمر لم يسأل الله حقيقة، ولم يدعه، ولا يمكن تسميته من الداعين وإن تفوّه ببعض الكلمات وأطلق بعض العبارات، والتي لا تعدو عن كونها لقلقة لسان، وقلبه ساهٍ، لاهٍ عن ربّه، قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «لا يقبل الله دعاء قلب لاهٍ». أشار الإمام عليّ (عليه السلام) إلى هذا المعنى عندما سأله رجل عن قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، قال: ما لنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟ فقال (عليه السلام): «فأي دعاء يستجاب لكم وقد سددتم أبوابه وطرقه، فاتقوا الله، واصلحوا أعمالكم، واخلصوا سرائركم، وامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فيستجب لكم دعاؤكم». فلابدّ للمؤمن الداعي أن يكون قلبه مُفعماً بالإخلاص متوجهاً إلى ربّه بكلّ ثقة واطمئنان، وأن لا يجعل الملل والضجر يتسلل إلى نفسه جرّاء تأخّر الإجابة فلعلّ الخير، والمصلحة في عدم الإجابة، أو تأخيرها أو لعلّ الله سبحانه يحبّ أن يسمع دعاءه ومناجاته كما ورد هذا المعنى في كثير من الأحاديث النبوية. فينبغي حينئذٍ للإنسان المؤمن أن يسأل الله تعالى ما فيه خير الدنيا والآخرة، سواءً أكان في الاستجابة أم في عدمها. وقد ورد في الدُّعاء عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: «فإن أبطئ عنّي عتبت بجهلي عليك ولعلّ الذي أبطئ عنّي هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأُمور».
يُولد الإنسان وتُولد معه الحاجة والعجز على تلبية رغباته، والقيام بشؤونه، ومتطلّبات حياته، وهذا العجز كما هو واضح متأصل في حقيقة وجوده وذاته، ويُمكن أن يتحسسه الإنسان بأدنى مناسبة. إذ من الممكن أن يهدّ كيانه وقواه الجسمانية اختلال بسيط في وظائف أعضائه، بل ارتفاع بسيط في درجات حرارته، فيجعله منحرف المزاج غير مرتاح البال. وهذه الحالة لا يشذ منها فرد من أفراد البشر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15).
ولكنّ الإنسان وفي غمرة انشغاله بالحياة، وفي كثير من حالاته وأوقاته تتملكه الغفلة، ويستولي عليه الغرور ويعيش سكرة الحياة المادّية، ونعيمها لما مُنح من نِعَم كثيرة كالصحّة، أو المال وغيرها فيبقى في غيّه مُسلِّماً زمام نفسه لهواه ورغباته فينسى نفسه وما بها من ضعف وحاجة وفقر، إلّا الذين آمنوا بالله وأدركوا حاجتهم وضعفهم، فنفضوا عنهم غبار الغفلة، ومزّقوا حجب الهوى، والتفتوا إلى أنفُسهم فاتجهوا بكلّ وعي إلى القوّي الذي لا يعرف الوهن، وإلى الغنيّ الذي لا يشوبه الاحتياج ليترجموا الشعور بدعائهم بكلّ تضرع، واستكانة وانكسار وتذلل، ليرفع الله حاجتهم، ويسدّ فقرهم.
وفي دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللّهُمّ سُدّ فقرنا بغناك اللّهُمّ غيِّر سوء حالنا بحسن حالك». فالدُّعاء بهذا المعنى هو صدى وانعكاس حقيقي لمشاعر الفاقة، والعجز الذي يغمر الإنسان، وترجمة واقعية لعبودية الإنسان، وارتباطه بخالقه، فقد ورد في موارد الدُّعاء: «أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري». إذن الدُّعاء هو الذي يُجذر في الإنسان شعوره بالعبودية والرهبة لله سبحانه، فلذا عُدَّ الدُّعاء من أفضل أنواع الوعي الذاتي الذي يستذكر فيه الإنسان أصالته وعبوديته، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): «إلهيّ أصبحت وأمسيت عبداً داخراً لك لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلّا بك».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق