• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فلسفة الصيام في شهر الرحمن

أسرة البلاغ

فلسفة الصيام في شهر الرحمن

فرض الصيام على المسلمين، في شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ومنذ ذلك التأريخ حتى نهاية الأبد يدأبون في أداء هذه الفريضة، بنفوس مطمئنة، وقلوب تهفو إلى الرحمة والغفران، لا تهدهم لدغة الحرمان، ولا قسوة الحر وعصف الشتاء، عن أداء هذا الواجب الديني. فما هو الهدف من هذه الفريضة العامة، التي لا يعفى عنها غير المريض والمسافر ومن لا يطيق الصيام؟. وقبل ذلك يجدر بنا أن نستوفي تعريفاً برمضان ومعرفة رسالته ولا نغلق أذهاننا عن فلسفة هذا الشهر العظيم، الذي أطراه الله في القرآن، واحتفى به الرسول والأئمة والمسلمون. فشهر الصيام قبل كلّ شيء احتفال عام مستمر بنزول القرآن، والقرآن ليس كتاباً سماوياً فحسب، وإنما هو الإسلام، كلّ الإسلام، ومصدر النبوة ودستور المسلمين.

وإذا كان الإسلام منهاج البشرية جمعاء إلى يوم القيامة، وأوسع الأديان وأكملها، فما أجدر المسلمين أن يحتفوا بميلاد هذا الشرع العظيم، متمثلاً في نزول القرآن. وبعد ذلك فرمضان شهر التبليغ، لأنّ الإنسان الذي تتحكم فيه الغرائز والعواطف من الداخل، وتجاذبه المغريات من الخارج، لابدّ له أن يسايرها لولا الوازع الديني الذي يكم انفلاته. وحيث انّ الموائد المادية الخلابة منتشرة في كلّ مكان، لتعجب وتغري وتذهل، فالإنسان الذي أطلق سراحه ليرعى في هذه المطاعم الشهية أحد عشر شهراً يشعر بتضاؤل القوى المعنوية أمام بركات المادة. والعبادات اليومية، رغم نتاجها الفعّال، لا تشعر الإنسان بأنّ القوى المعنوية مسيطرة على القوى المادية، فلابدّ من استخدام وسيلة أخرى لإعادة الإنسان إلى مكانته الوسطى، بين عناصر الروح والمادة، فشرع الإسلام شهر الصيام، لإنجاز هذه الرسالة الكبرى، ومكافحة التطرف المادي الذي يتزايد في غضون السنة. فشهر رمضان، زيادة على أنّه موسم الخطب والمحاضرات، والصلوات والأدعية والأذكار، يعتمد في مهمته على التبليغ المباشر، وهو الصيام. ذلك أنّ الإنسان الذي أضرب عن المطاعم شهراً كاملاً لأمر واحد من أوامر الله، رغم إلحاح الضرورة عليه، يتركز في كيانه: أنّه وجميع الظواهر المادية خاضعة للقوى المعنوية، فلا تطغى المادة على الدين، ولا تجرف عوامل الخير، وإنما تبقى محدودة بتوجيه الإسلام، وإرادته الظافرة. على أنّ شهر رمضان شهر الاستجمام والتفكر، فالإنسان بما ركز فيه من غريزة التطور، ويكره الدأب في وظيفة معينة، ومنهاج واحد للعيش والحياة. كما أنّ تفكير الإنسان ينبو عن محاسبة وتنبه وتخطيط المستقبل وهو منغمس في معالجة المشاكل ومقاساة الآلام التي يفرضها عليه عمله الرتيب، ويعجز عن النبوغ والإبداع في زحمة الوقائع، ومرتكم المناقضات. فلابدّ له في كلّ سنة من شهر يعتزل فيه معترك الحياة، ويفرغ لنفسه وتفكيره، فينظر في حياته السابقة، ويصحح ما فيها من أخطاء ويضع منهاج مستقبله في جوٍ عامر بالتروي والأناة. ولهذه الحقيقة يحبذ الإسلام أن ينسلخ الفرد في هذا الشهر من المادة والحياة، وينصرف إلى الاعتكاف وعبادة الله، فيتفرغ للتلقي والتجاوب دواعي الدين والضمير، حتى يكون على بينة لتلبية بواعث الإلهام، ولا يندفع إلى حياته آماداً طويلة بلا تفكير وتخطيط كالراكب الذي ينطلق بوحي الساعة من دون استعراض ماضيه، والتنبؤ لمستقبله. كلّ ذلك لتكون حياة الإنسان في هذا الشهر غير حياته في سائر الشهور، فيجد تطور الحياة وينال فرصة الاستجمام، وينعم بالمجال الواسع لوضع منهاج المستقبل، بترو وأناة. هذا بعض ما يرجع إلى فقه رمضان.

وأما فلسفة الصيام، في هذا الشهر المبارك، فتلك ما تحلقت حولها الأسئلة، وتناطحت عليه الآراء، فهناك من يظن: أنّ الصوم وسائر العبادات طقوس شكلية ومراسيم فارغة، فرضت على النّاس، لمجرد التكليف والتعجيز، دون أن تحمل رسالة، أو تهدف إلى مقصد نبيل. وهناك آخرون يحسبون: أنّ الصوم فرض على المسلمين، لتعذيب النفس، وارهاقها بالشدة والقسوة، لتنسلخ عن المادة، وتتسم بنكران الذات، كما كان قدماء الهنود يكلفون أنفسهم رياضات جسمية مرهقة معتقدين أنّ السعادة الكاملة في العذاب والرهق. بينما الواقع: أنّ الصوم ليس من الطقوس الجوفاء، ولا من الرياضات المرهقة، وانما هو تربية للعقل والنفس والروح، ومران للإرادة.

ارسال التعليق

Top