• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

غيرة الطفل تُخمد بقليل من الاهتمام

السيد أحمد باقر القزويني

غيرة الطفل تُخمد بقليل من الاهتمام

أبصر رسول الله (ص) رجلاً له ولدان، فقبَّل أحدهما وترك الآخر، فقال رسول الله (ص): "فهلَّا سَاوَيْتَ بَيْنَهُمَا"[1].

من التصورات الخاطئة التي تعشعش في أذهان البعض وتجعلهم يبنون على أساسها نظريات وأحكاماً مختلفة هي التي تتعلق بكثرة الأولاد والتي يعتبرها البعض منشأً للكثير من المشاكل والحالات النفسية السيئة وعلى رأسها الغيرة.

إلا أنّ الحقيقة عكس ذلك تماماً فلم تكن كثرة الأولاد يوماً سبباً في النزاعات والشجارات التي غالباً ما تحدث بين الإخوة، بل إنّ الغيرة هي أحد أهم أسباب هذه النزاعات والشجارات، وذلك لأنّ الغيرة من الأمراض التي تدخل البيوت دون إذن مسبق وتعشعش فيها وتسلب راحة ساكنيها.

ومن هنا يجب الالتفات إلى صحة الطفل النفسية والحرص على سلامته خصوصاً في السنوات السبع الأولى من عمره لأنّه في تلك الفترة عرضة للكثير من هذه الأمراض إلى جانب الأمراض الجسدية، وتتضاعف أهمية المسألة عندما ندرك بأنّ الكثير من الأمراض الجسدية التي قد يصاب بها الطفل في تلك المرحلة من العمر منشؤها أمراض نفسية.

فالغيرة هي من الأمراض النفسية الخطيرة التي تصيب الطفل في المراحل الأولى من حياته خلافاً لغيرها من الأمراض الأخرى؛ كالكذب، والسرقة، وعدم الثقة بالنفس.

والغيرة تسلب قدرة الطفل وفعاليته وحيويته، مثلها في ذلك مثل السرطان الذي يصيب خلايا الجسد، ومن هنا فمن السهل على الوالدين تشخيص المرض عند أطفالهم وذلك عبر معرفة علائمه، فكما أنّ الحمَّى دليل التهاب في الجسم فكذلك للغيرة علامات تدل على وجودها.

لكن وقبل كل شيء علينا أن نعرف أنّ الغيرة حالها حال أي مرض نفسي أو جسدي آخر هو حدث طارئ على سلامتنا وسلامة أطفالنا، وبالتالي هي ليست أمراً فطرياً كما يعتقد البعض، وذلك لأنّ السلامة هي الأصل في الخلقة، وهي هبة الله لجميع الكائنات ومنها البشر، وبالتالي فإنّ الأمراض النفسية والجسدية التي تصيب الطفل نتيجة أسباب وعوامل يمكن تلافيها عبر التدابير السليمة أو تداركها عبر العلاج الصحيح.

إنّ أهم مظاهر الغيرة – كما أشرنا – هو الشجار بين الإخوة، وكذلك بكاء الصغير لأتفه الأسباب، فقد نجده في بعض الأحيان يبكي ويعلو صراخه لمجرد استيقاضه من النوم، أو لعدم تلبية طلبه بالسرعة الممكنة، أو لسقوطه على الأرض، أما العبث في حاجات المنزل فهو مظهر آخر للغيرة التي تحرق قلبه، وبالخصوص حين ولادة طفل جديد في الأسرة.

أما الانزواء وترك مخالطة الآخرين فهو أخطر مرحلة يصل إليها المصاب بالغيرة، ومنشأ خطورتها من عدم تشخيصها بسهولة حيث غالباً ما يتصور الوالدان أنّه نوع من اللعب واللهو الفردي، الذي لا يود فيه الاختلاط مع أقرانه، أو أن طفلهما هادئ ووديع يجلس طوال الوقت جنب والديه ولا يختلط مع أقرانه في زيارتهم للآخرين، ولا يعلم الوالدان أنّ الغيرة حين تصل إلى أعلى مستوياتها فإنّها تقضي على مرح الطفل وحيويته.

من السهل على الوالدين أن يكتشفا حالة الغيرة في طفلهما الذي لم يتجاوز بعد السابعة من عمره وذلك لأنّ مظاهر الغيرة تظهر عليه في تلك الفترة بوضوح إلا أنّ التشخيص يصعب بعد تلك الفترة من العمر حيث تختفي مظاهرها، والأمر يزداد سوءاً عندما يتصور الوالدان أن طفلهما أصبح كبيراً لا يغار، لأنّ الطفل في المرحلة الجديدة من عمره يبتعد شيئاً فشيئاً عن والديه ويقل اهتمامه واعتماده عليهما، وبالتالي يبحث عن أجواء أخرى غير الأسرة والتي تتمثل بالطبع بالصداقة والرفقة، سواء في محيط المدرسة أو لدى الجيران، ولا تنعكس حالة الغيرة في الولد اليافع إلا في نوبات الشجار التي يخوضها مع إخوته في الأسرة، بينما تأخذ هذه الحالة داخل المجتمع أبعاداً أخرى حيث يوفر هذا المجتمع المزيد من العوامل والأسباب.

 

أسباب الغيرة عند الطفل:

لا نبالغ عندما نقول: إنّ العامل الرئيس في اندلاع نار الغيرة في داخل الطفل هو تجاهله وعدم الاهتمام به، فبعض الآباء لا يدرك – وللأسف – أن طفلهم هو كائن بشري يمتلك قيمة وجودية منحها الله له فهذا الطفل هو ذاته الإنسان الذي سجدت له الملائكة وهو ذاته الذي سخرت جميع المخلوقات لخدمته وتأمين احتياجاته وذلك لأنّه يحمل نفحة من روح الله التي يتميز بها عن سائر الكائنات، وتبدو أهمية هذا الكائن الإنساني من خلال الأحكام التي خصها الله به منذ ولادته، مثل حرمة قتله، ووجوب دفع الدية حين تعرضه لأيِّ أذىً مثل خدشه أو جرحه أو غيرها، وحتى فيما يرتبط بالطريق الذي يسير؛ فلا يجوز تعريضه للأذى فيه، كأن تُرمى الأوساخ فيه أو يُقطع الطريق عنه، إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي تعكس لنا مدى اهتمام الخالق بوجود الإنسان ووجوب احترامه.

وحين يتعرَّض الطفل إلى تجاهل الآخرين وعدم اكتراثهم به يستخدم العناد كوسيلة دفاعية لما يتعرَّض له من أذى نتيجة ذلك، والتجاهل يأتي في الغالب نتيجة اهتمام الوالدين بأحد الأطفال دون الآخر، وهو ما ترفضه التربية الإسلامية تماماً كونه يشكل عاملاً لزرع الحقد في داخل الطفل تجاه أفراد أسرته وهو ما نلاحظه في الرواية التي زينا بها مطلع هذه السطور حيث قال الرسول (ص) لذاك الرجل: "فهلَّا سَاوَيْتَ بَيْنَهُمَا" والهدف من هذه المساواة بين الأولاد هو تجنب ما قد ينتج عن التمييز بينهما من أمراض نفسية في مقدمتها الغيرة.

 

المقارنة بين الأبناء:

إنّ اعتماد الوالدين لأسلوب المقارنة بين الأبناء يثير حنق هؤلاء الأبناء وإزعاجهم، فكما أنّ الزوجة تنزعج عندما يطلب منها زوجها أن تكون ماهرة في إعداد الطعام مثل جارتهم، فكذلك هو حال الطفل أيضاً حيث نفسيته تتشابه مع الكبار في هذا الأمر بالتحديد، لذا ينبغي على الوالدين عدم اللجوء إلى المقارنة بين الأبناء بالمديح أو الذم، مثل أن تقول الأُم لصغيرها: لماذا لا تكون مثل أخيك الذي يحافظ على ملابسه دوماً، أو لا تبكِ وتكون مزعجاً مثل أخيك.

 

كيف نعالج الغيرة عند الأبناء؟

إنّ معرفة الداء هو نصف الدواء – كما يقال – ولذا فمعرفة أسباب الغيرة تساعد كثيراً في علاجها بل وتجعلنا نتقي شرها ووجودها من الأساس، إلا أنّه يبقى أن نذكر أيضاً بأنّ أهم علاج للغيرة يتركز في إشباع حاجة الأطفال للحُبِّ والحنان، مع الاهتمام بوجودهم، لأن فقدان ذلك يتسبب في دفع الأطفال نحو العناد وعدم طاعة الوالدين.

فالغيرة والعناد متلاصقتان ومتى ما وجد أحدهما وجد الآخر، والغيرة هي نتاج طبيعي للعناد، ففي بادئ الأمر يكون الطفل معانداً لأسباب مختلفة وبسيطة في أغلب الأحيان وفي حال لم يتم علاجها فإنّ الأمر سوف يتفاقم أكثر فأكثر، ويُصاب الطفل في النهاية بمرض الغيرة، ومن هنا فيجب على الوالدين أن لا ينسيا اسماع الطفل كلمات الحب والإطراء، والتقدير والمديح، والاهتمام بوجوده.

وقد تتساءل الأُم حديثة الولادة عن قدرتها على توزيع الاهتمام بين أبنائها في الوقت الذي يأخذ فيه الرضيع كل اهتمامها ووقتها، وننصح هذه الأُم بالتالي:

أوّلاً: إشعار الطفل بأنّه كبير؛ إنّ الأُم وهي ترضع صغيرها بإمكانها أن تتحدث مع الكبير قائلة: كم أتمنى أن يكبر اخوك ويصبح مثلك يأكل وحده، وله أسنان يمضغ بها، ويمشي مثلك، و.. و..، حتى أرتاح من رضاعته، ولكنه مسكين لا يتمكن من تناول الطعام أو السيطرة على معدته، وتقول لطفلها الأكبر حين يبكي الرضيع وتهرع إليه: نعم جئنا إليك فلا داعي للبكاء، إن أخاك سوف يعلمك أن تقول إني جوعان بدل الصراخ والضجيج، وبهذه الكلمات وغيرها من التصرفات يمكن إشعاره بأنّه كبير، والصغير يحتاج إلى هذه الرعاية.

ثانياً: لا تقولي له لا تفعل؛ وحتى نجنِّبه الغيرة من الرضيع، يحسن بالأُم أن لا تقول للطفل الكبير لا تبكِ مثل أخيك الصغير، أو لا تجلس في حضني مثل الصغار، أو لا تشرب من زجاجة الحليب العائدة لأخيك الصغير.

ثالثاً: إعطاؤه جملة من الامتيازات؛ لابدّ من إشعار الطفل بأنّه كبير، وأنّ الاهتمام بالصغير لعجزه وعدم مقدرته، إضافة إلى إعطائه جملة من الامتيازات لأنّه كبير، فلا يصح الاهتمام بالوليد دون أن يحصل هو على امتيازات الكبار، ولابدّ من الحرص على إعطائه بعض الأشياء لأنّه كبير، مثل أن تُخُصِّيه بقطعة من الحلوى مع القول له: هذه لك لأنَّك كبير، ولا تعطها لأخيك لأنّه صغير، وهذه اللعبة الجميلة لك لأنَّك كبير، أما هذه الصغيرة فهي للصغير.

وكذلك يجب الحذر من إعطائه لعبة بعنوان أنّها هدية له من أخيه الوليد، لأنّ هذا التصرف يوحي له بالعجز عن تقديم هدية لأخيه مثلما فعل الأصغر منه، فتزيد غيرته منه.

رابعاً: ارفضي إيذاءه واقبلي مشاعره؛ لابدّ أن تمنعي بحزم محاولة الطفل الكبير إيذاء أخيه الصغير، كأن يرفع يده ليهوي بها عليه، فتمسكي يديه أو الشيء الذي يحمله ليضربه به، ومع ذلك امسكيه واحضنيه بعطف واحمليه بعيداً عن أخيه، لأنّ الطفل بالحقيقة لا يريد إيذاء أخيه، ولكن سوء تعامل الوالدين واهتمامهم بالرضيع دونه دَفَعَه إلى هذا الفعل، لذا ينبغي على الأُم أن تمنع الأذى وتقبل مشاعره الغاضبة، لأنّه لا يملك القدرة على التحكم بها.

خامساً: الشجار بين الإخوة؛ يجدر بالوالدين عدم التدخل في الخلافات بين الأبناء، ما دام التدخل لا فائدة منه، بسبب الغيرة التي هي وقود النزاع بين الإخوة، والتي تحتاج إلى علاج كما أسلفنا، هذا إن كانت الخلافات لا تصل إلى الإيذاء الشديد بأن يكسر أحدهما يد الآخر، أو يكون أحدهما ضعيفاً يتعرض للضرب الشديد دون مقاومة.

فالأفضل في مثل هذه الحالة إيقاف النزاع، ولو إن عدم تدخل الوالدين ينهي الخلاف بشكل أسرع، ولكن لعل نفاد صبر الوالدين يجعلهم يتدخلون في النزاع، وهنا يجدر بهم أن لا يستمعوا إلى أي أحدٍ من أطراف النزاع، ولا الوقوف مع المظلوم أو العطف عليه، لأنّ الاستماع وإبداء الرأي وإبراز العواطف لأحد دون آخر يزيد في الغيرة التي تدفعهم إلى العراك.

كما يجدر بالوالدين عدم إجبار طفلهم الذي انفرد باللعب أن يشارك إخوته الذين يريدون اللعب معه أو بلعبته، فإجباره يولِّد حالة الشجار فيما بينهم أيضاً.

 

المصدر: كتاب فنُّ تربية الطفل


[1]- مكارم الأخلاق، ص220.

ارسال التعليق

Top