◄تتميز رسالة الدين بأنّها لا تتعامل مع الأشياء والظواهر تعاملاً طبيعياً مباشراً فحسب. بل أنّها تتعامل تعاملاً رمزياً مع العديد من تلك الظواهر. فالشيطان مثلاً لا يسكن مواضع جمرة العقبة الكبرى أو الوسطى أو الصغرى، ولا يتواجد تواجداً واقعياً في تلك الأمكنة. ولكن رمي الجمرات ما هو إلّا رمز يعكس تصميم الإنسان على رجم الشيطان رجماً يُخرجه من الحياة الشخصية لذلك الفرد الرامي. فالرمز هو شيء يستطيع أن يمثّل معنى شيءٍ آخر. وقطعة ملوّنة من قماش تمثّل علم الدولة، تُعتبر رمزاً لكرامتها واستقلالها؛ وسكوت المُرسِل على شيء عرفي، يمثّل رمزاً لإمضائه لذلك العرف؛ واغتباط فرد ما، يمثل رمزاً لرضاه واطمئنانه. مع إنّ قطعة القماش، والسكوت، والاغتباط ليست هي نفسها المعاني المرادة، وإنما المراد هو ما تمثّله تلك الأشياء. والرمز مهم في الرسالة السماوية، لأنّ تلك الرسالة – ولكي تقرّب المعنى المراد إلى ذهن الفرد – تستخدم شفرات أخلاقية وتعبيرية مفهومة. وبتعبير آخر، أنّ الخالق عزّ وجلّ يستطيع بقدرته الجبارة الخارقة أن يجعل الشيطان يقف واقعاً أمام الجمرات حتى يتهيأ الناس لرميه بالأحجار. ولكن الإسلام لا يتعامل مع المعجزات والخوارق في كلّ الحالات وفي جميع الأوقات. بل فسح مجالاً للسنن التكوينية بممارسة دورها الطبيعي ضمن التصميم الإلهي للكون. ولا شك أنّ اللغة وما تحويه من كلمات متفق عليها تعكس صورة واضحة عن دور الرمز في فهم المعاني التي يريدها المتكلم. فعن طريق الكلمات والرموز الأخرى يحاول الأفراد تعريف وتفسير العالم الخارجي من حولهم. وعن طريق اللغة تنتظم الحياة الإنسانية، لأنّ الأفراد يتفاعلون فيما بينهم عن طريق رمز مشترك يضفي على حياتهم معانٍ جديدةٍ.
فالتفاعل الاجتماعي – إذن – هو التفاعل الذي يحصل بين الأفراد من خلال الرموز المتفق عليها كالإشارات والتعابير والكلمات. والاستجابات الإنسانية لبقية الأفراد في النظام الاجتماعي ما هي إلّا استجابات للمعاني التي يحملها سلوكهم. فنحن لا نتفاعل مع الأفراد مباشرة، بقدر ما نتفاعل مع المعاني التي نفسّرها في سلوكهم. فابتسامة فرد ما لنا قد نتصرف تجاهها بطريقين؛ فأما أن تكون ابتسامة رضا وامتنان، وأما أن تكون ابتسامة سخرية واستهزاء. وعن طريق المعنى الذي نفهمه من تلك الابتسامة نحدّد استجابتنا لذلك الفرد ونحدد تفاعلنا معه. والرموز التي نفهم من خلالها النظام الاجتماعي وأفراده ونتفاعل معهم، هي الرموز ذاتها التي نتفاعل بها مع الدين ورسالته الروحية والاجتماعية العظيمة. فالكلمات والتعابير والإشارات الدينية هي نظام متكامل وجسر يوصلنا إلى التقرب من خالقنا العظيم، وبناء نظامنا الاجتماعي العادل. ولا شكّ أنّ مناسك الحج غنيّة بتلك الرموز. فالنية الداخلية بالإحرام والطواف والصلاة والسعي والوقوف والرمي والنحر والمبيت، والكلمات الشرعية كالتلبية: "لبيك اللّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك"، والدعاء عند التوجه إلى عرفات مثلاً: "اللّهمّ إليك صمدتُ، وإياك اعتمدتُ، ووجهك أردتُ، أسألك أن تبارك لي في رحلتي وأن تقضي لي حاجتي"، والتعابير الإنسانية كالبكاء والشعور بالذنب والتوبة الخالصة لله سبحانه، والإشارات المنظّمة كانتظام الطواف وأفعال الصلاة ورمي الجمرات وتقليد الهدي ونحوها، كلّها تمثل رموزاً نتفاعل بها مع ديننا الحنيف وخالقنا العظيم. إلّا أنّ تلك الرموز الموحّدة لا تساعدنا على التفاعل الروحي مع خالق الوجود فحسب، بل إنّها تساعدنا على التفاعل الاجتماعي مع بعضنا البعض أيضاً. لأنّنا نشعر – عن طريق ممارسة تلك المناسك والأعمال التعبدية – أنّ للآخرين أنفساً تُشابه أنفسنا في الدعاء والابتهال والتذلّل لخالقنا العظيم. فنحن في واقع الأمر، نطوّر أنفسنا الداخلية – عن طريق تمرين ذواتنا أنفسها – على الاهتداء بذوات الآخرين الطاهرة. فعندما نرى مؤمناً طاهراً يمارس سلوكاً إيمانياً واجتماعياً، فإنّ جوهرنا الداخلي سوف يتأثر بتلك الشخصية الإيمانية المهذّبة، فنحاول في تصوراتنا – عندئذٍ – أن نرى الحياة من خلال تلك الشخصية أو تلك الذات الطاهرة كي نفهم كيف ينمو ويتطور الإيمان في شخصية الإنسان. وعندما نتصرف تصرفاً جماعياً موحّداً من خلال فهم الرموز المشتركة فإنّ استعدادنا وقابليتنا على تفسير سلوك الآخرين سيجعلنا نتفاعل تفاعلاً اجتماعياً له معانٍ مشتركة عظيمة على صعيد الإنسان والحياة البشرية والنظام الاجتماعي.
فالعبادات – إذن – وخصوصاً مناسك الحج، لها أثر واضح في التفاعل الاجتماعي بين الأفراد. وهذه العبادات بأشكالها الرمزية المفهومة لدى المكلّفين تجعلنا أكثر استعداداً للتماسك والتفاهم الاجتماعي، وتجعل قدراتنا الاجتماعية على التأثير والتغيير أكثر فاعلية وأشدّ وقعاً على بقية الحجيج القادمين من شتى أرجاء العالم.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق