• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

صلاة الجمعة والسعي إلى ذكر الله

العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله

صلاة الجمعة والسعي إلى ذكر الله

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الجمعة/ 9-11).

 

وهذا نداءٌ قرآنيٌّ يحمِّل المسلمين حضور صلاة الجمعة التي أرادها الله أن تكون صلاة جامعةً، يلتقي فيها الناس في منطقةٍ واسعةٍ تمتد إلى فرسخين، على عبادة الله المنفتحة على المفاهيم الإسلامية العامة التي يقف الخطيب ليؤكدها للناس في ما تحتاجه دنياهم وآخرتهم مما يهتمون به، أو مما ينبغي الاهتمام به، وذلك في خطبتين تقومان مقام ركعتين، مما كان يؤديهما المؤمن في صلاة الظهر بدلاً من الجمعة، لأن صلاة الجمعة ركعتان تسبقهما خطبتان، مما يوحي بأنّ الحديث الوعظي والتوجيهي، حتى في المجالات السياسية المتصلة بحياة المسلمين يمثل لوناً من ألوان الصلاة حتى أنّه يكون بديلاً عنها. وقد أكّد الله على هذه الصلاة، كما لم يؤكد على صلاةٍ غيرها، بحيث ألغى الأعمال الأخرى التي تعيق المؤمن عن حضورها، إلا ما كان يدخل في نطاق الضرر أو الحرج أو الاضرار، مما رفع الله مسؤوليته عن المكلف، فحرم البيع في وقت النداء إليها. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في استثارةٍ وجدانيةٍ لعمق الإيمان في وجدانهم، ليتحملوا مسؤولية فرائضه في التزام ثابتٍ لا تختل مواقعه أمام أيّة حالةٍ من حالات الاهتزاز الداخلي والخارجي، وذلك من جهة الإلحاح على استعادة هذه الصفة في شخصيتهم، وتحريكها في حياتهم، لئلا تشغلهم الأوضاع المحيطة بهم، والصفات الأخرى الطارئة على حياتهم عن ذلك.

(إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) لإقامة هذه الصلاة في جموع المسلمين، ليلتقوا جميعاً – باسم الله – في عبادة الله المنفتحة على قضايا الحياة العامة، (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) والمراد به الصلاة التي تمثل التجسيد الحي المتحرك لذكر الله في حركاتها وسكناتها وقراءتها وأذكارها، وقيل: إنّ المراد به الخطبتان قبل الصلاة، باعتبار أنهما تشتملان على ذكر الله، وعلى تذكير الناس به وبموقعهم منه، (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فقد حرَّمه الله، لأنّ القضية في هذا الوقت هي أن يلتقي المسلمون جميعاً في عبادةٍ لا في عبادةٍ فرديةٍ، ليأخذوا الرخصة في الانفراد بها بعيداً عن جماعة المسلمين.

وإذا كان الله قد نهى عن البيع وقت النداء لأنّه يمنع المؤمن من الصلاة، فإن معنى ذلك أنّ النهي يشمل كل عمل مماثلٍ للبيع في هذه الجهة. وربما كان ذكر البيع بخصوصه، باعتبار أنّه الغالب على الناس آنذاك في ما يشغلهم أمره عن الصلاة. (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لأنّ النتائج الروحية والعملية التي تحصلون عليها من خلال هذه الصلاة العبادية الثقافية المنفتحة على الجانب الاجتماعي والسياسي، لا تقدر بثمن، بحيث لا قيمة لما يربحه الإنسان من الأعمال الأخرى التي ينشغل بها عن الصلاة، أمام الربح المعنوي والمادي الذي يحصل عليه في الحاضر والمستقبل، من خلال النتائج الواقعية للصلاة على أكثر من صعيد.

 

الانتشار لطلب الرزق:

(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ)، لتطلبوا الرزق في سهولها وجبالها من كلّ مواقعه، (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الذي تفضل على عباده فتكفَّل برزقهم، في غامض علمه، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون. وفي هذا نوعٌ من الإيحاء الروحي بأن مصادر الرزق كلها بيد الله، وأنّ الإنسان الذي يتطلبها ويسعى إليها إنما يرجو فضل الله الذي يملك الرزق كله في مصادره وموارده.

وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) في ما رواه عمر ابن يزيد عنه قال: إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله، ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال، أما تسمع قول الله عز اسمه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، أرأيت لو أن رجلاً دخل بيتاً وطيَّن عليه بابه ثمّ قال: رزقي ينزل علي أكان يكون هذا؟ أما إنّه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم. قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستحاب له لأنّه ترك ما أمر به، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته ولا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله ثمّ يدعو فلا يستجاب له.

(وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) فلا يكون الذكر مجرد حالةٍ طارئةٍ في حياة الإنسان، في ما يمارسه من صلاةٍ معينةٍ في وقتها، أو من ذكرٍ واجبٍ أو مستحبٍّ، في زمانٍ معيّن، بل يكون حالةً مستمرةً يستشعرها الإنسان في قلبه ولسانه وحياته، حتى يكون حضور الله في حياته، هو الحضور الحي الذي يشمل الكيان كله، بحيث لا يرى شيئاً إلا ويرى الله معه، فتتماسك أقواله وأفعاله، وتتوازن خطواته، ويستقيم سبيله في آفاق الله، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإنّ الارتباط بالله المنفتح على جانب العقيدة والعمل هو سبيل الفلاح الوحيد للإنسان في الدنيا والآخرة، لأنّه هو الذي يؤكد التقوى الفكرية والروحية والعملية في كل مواقع حياته، وقد جاء في الآية الكريمة: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 200).

(وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) (الجمعة/ 11)، جاء في أسباب النزول في ما رواه في عوالي اللآلي عن مقاتل بن سليمان قال: بينا رسول الله (ص) يخطب يوم الجمعة، إذ قدم دحية الكلبي من الشام بتجارةٍ، وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم، إذا قدم، بكل ما يحتاج إليه الناس من دقيقٍ وبرٍّ وغيره، ثمّ ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج الناس فيبتاعون منه.

فقدم ذات جمعةٍ، وكان قبل أن يسلم، ورسول الله (ص) يخطب على المنبر، فخرج الناس فلم يبق في المسجد الا اثنا عشر، فقال النبي (ص): لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء، وأنزل الله الآية في سورة الجمعة.

 

كيف نستوحي هذه الآية:

وقد يكون وحي هذه الآية، في ما يريد أن نستوحيه، أنّ الله سبحانه يريد أن يتحدث إلينا دائماً عن نقاط الضعف في الواقع الإسلامي الديني للجيل المسلم الأوّل من الصحابة، ليؤكد لنا أن وجود نقاط الضعف في كلّ جيلٍ مسلمٍ لا يلغي إسلاميته، ولا يخفف من مسؤولية القيادة على التعامل معه، والالتفادت إلى نقاط القوة الأخرى الموجودة في داخله لدى الأفراد الآخرين، أو لدى الأفراد أنفسهم الذين يعيش الضعف في داخلهم. ثمّ تنطلق القيادة لتوجه وترشد وتقود من خلال كلام الله، ومن خلال القدوة، أو من خلال الترغيب والترهيب.

وقد يكون من الملفت للنظر أن يكون المسلمون في مسجد رسول الله (ص) وهو يخطب فيهم في صلاة الجمعة، ليوجههم نحو مواقع الفلاح والسمو في الدنيا والآخرة، ويدق الطبل التجاري أو الطبل اللهوي، فينفضون عنه، ليبقى النبيّ وحده أو مع جماعةٍ قليلة. ولكن المسألة هي أنّ الناس هم الناس في كلّ زمانٍ ومكان، وأن على العاملين في خط الدعوة والجهاد في سبيل الله أن يدرسوا الإنسان في طبيعته، في نقاط ضعفه وقوته، فلا يصيبهم الإحباط إذا واجهوا بعض الانحرافات الطارئة أو القوية لدى المؤمنين أو المجاهدين، ولا يسيطر عليهم اليأس، بل يواجهون الموضوع في مؤثراته الواقعية الإنسانية، وذلك من خلال أنّ الأديان والمبادئ لا تتحرك على أساس التنفيذ الشامل، بل على أساس التنفيذ المتحرك الذي قد يتجمد في بعض الحالات، وقد ينطلق في حالات أخرى، بشكلٍ سريعٍ تارةً وبطيءٍ أخرى، لأنّ الإنسان لا يمكن أن يكون خاضعاً لحالةٍ ثابتةٍ دائمةٍ مع اختلاف الظروف والأوضاع والمؤثرات الداخلية من حوله، مع طبيعة الغفلة أو التذكر اللذين يتواردان عليه في مسألة الإيمان، فيتركان تأثيرهما عليه تبعاً للنتائج المترتبة على هذا أو ذاك، مما يفرض التعامل مع حركة الإسلام في الإنسان بمنطق الواقع الذي يدفع بالكلمة الهادئة تارة، والقوية أخرى، والمضمون الفكري في حالةٍ والمضمون العاطفي الشعوري في حالةٍ أخرى. وهذا ما واجه به القرآن هؤلاء الذين تركوا الرسول (ص) في خطبته وصلاته، واندفعوا إلى اللهو والتجارة، فاكتفى بتسجيل الانحراف العملي عليهم، ثمّ بادرهم بالكلمة النتائج النهائية على مستوى المصير.

 

ما عند الله خير من اللهو والتجارة:

(قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ) فإنّ اللهو أن يفقد أثره في النفس وفي الواقع في لحظاتٍ أو في ساعات، أمّا التجارة فإنها قد تحقق بعض الربح، ولكنها قد لا تحقق شيئاً في ظروف معينة، لأنّ مجرد المبادرة إلى مواضعها ليس كلّ شيء في ما هي النتيجة الحاسمة للربح، بل قد تكون هناك مؤثراتٌ أخرى ليست بيد الإنسان مما يتصل بظروف السوق والشخص الآخر والأجواء العامة، مما يملك الله أمره في ما يملكه من قلوب الناس التي يحولها ويقلّبها كيف يشاء، أو في ما يهيمن عليه من ظروف الواقع التي يبدلها كما يريد وذلك من خلال الخطة التي وضعها لتوزيع الرزق على عباده عبر الأسباب الاختيارية وغير الاختيارية، الأمر الذي يفرض على المؤمن الاعتماد عليه وحده لا على الآخرين ممن يحتاجون إليه ويقفون ببابه.

(وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنّ كلّ الذين يعتبرهم الناس رازقين بالمباشرة، هم المرزوقون الذين يستمدون رزقهم من الله الذي هو الرازق الحقيقي للكون كله، وكل من عداه، وما عداه، فهو صدىً لإرادته. ولذلك فإن معنى التفضيل في كلمة "خير" لم يأت للمفاضلة في ما هو القاسم المشترك في الحقيقة، ولكن في ما هو الظاهر في النظرة الساذجة للموضوع، التي تكتفي بالسطح، ولا تنفذ إلى العمق، لأنّه هو وحده عمق الوجود كله وسره ومعناه.

 

المصدر: كتاب من وحي القرآن/ المجلد الثاني والعشرون

ارسال التعليق

Top