أنت في رمضان ممسك عن طعامك وشرابك، محارب للذَّاتك وشهواتك الجسدية، مقبل على ربك بالصوم والصلاة والعبادة والقرآن، وذلك غذاء شهي تستمرئه الروح، وتتلذذ به النفس الطيبة، وتصفو به الفكرة، ويشرق عنه نور البصيرة؛ فترى الحقائق على صورتها، وتضع كلّ أمر في نصابه وفي موضعه الذي خلق له، سترى إذا تأثرت بصوم رمضان أنّ هذه الأعراض الدنيوية، وهذه الأموال الفانية وسائل لا تقصد لذاتها، ولا قيمة لها في نفسها، ولكنها تشرف وتعلو إذا أنفقت في الخيرات، وترخص وتنحط إذا ضاعت في السفاسف؛ فيدفعك ذلك إلى الإنفاق، وأنت مغتبط مسرور؛ ولهذا كان رمضان شهر الإنفاق، وسترى إذا تأثرت بالصوم أن من ورائك قوماً جاعت بطونهم، وظمئت حلوقهم، وسغبت أحشاؤهم، وأن في وسعك أن تسدَّ جوعهم، وتروي ظمأهم، وتداوي مسغبتهم؛ فيدفعك ذلك إلى البذل والإنفاق؛ ولهذا أيضاً كان رمضان شهر السخاء والجود.
وسترى إذا تأثرت بالصوم أن عاطفة رقيقة يتحرك بها قلبك، وشعوراً دقيقاً تختلج به نفسك، وإحساساً قويّاً يسري في جوانحك هو الذي يسميه الناس الرحمة أو الشفقة أو العطف أو الحنان، وسمِّه ما شئت، فحسبك أنّه شعور يدفعك إلى مواساة المنكوبين، وإعطاء المحرومين، وكفكفة دموع البؤساء والمساكين بما حسن به إليهم من عطاء، وإذن فرمضان شهر العطاء والبذل، ومتى هان عليك هذا العرض الفتان الذي يسميه الناس المال، وعرفت أنك مستخلف فيه؛ لتنفقه في وجوه الخيرات، وليس لك منه إلا ما أكَلْتَ فأفنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أو تَصَدَّقْتَ فأبْقَيْتَ، وفهمت قول الله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ) (الحديد/ 7)؛ فإنك – بلا شكّ – ستقدم إلى الخيرات باذلاً منفقاً، وأنت باسم الثغر، رضي النفس، وذلك ما يؤديك إليه الصوم الشرعي الصحيح.
كان رسول الله (ص) أجوَدَ الناس، وكان أجوَدُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل (ع)، وكان يلقاه في كلّ ليلةٍ من رمضان فيُدارِسُهُ القرآن؛ فلرسول الله (ص) أجوَدُ بالخير من الرِّيح المُرْسَلَةِ.
أرأيت كيف أن علو نفس رسول الله (ص) في درجات الروحانية مع روحانية لقاء جبريل (ع)، مع روحانية تلاوة القرآن، مع روحانية صوم رمضان، كلُّ هذه الروحانيات مجتمعة أثمرت أن يتضاءل سلطان المادة، ويختفي أثر فتنة المال، فيجود به النبيّ (ص) كالريح المرسلة لا يبقى على شيء، وكذلك أثر العبادة الخالصة في نفوس العابدين.
ولو نما في المسلمين حب الخير، وطبعت نفوسهم على الجد في طلب العلياء، وبذل الجهد الصحيح في ذلك؛ لرأيت أن كلَّ مسلم لا يعجزه أن يقتصد قرشاً واحداً أو نصف قرش مما ينفقه في الدخان، ويقتصر في ذلك على ما يحقق الغاية، ثمّ ينفق ما يوفر من ذلك – وهو كثير – في مشروعات الخير وخدمة الإسلام، وبذلك تنجح مشروعات، وتتحقق آمال، وتقوم أعمال.
فليذكر المسلم ذلك بمناسبة شهر السخاء والجود، وليذكر معه أن اقتصاده لأمواله لتنفق في سبيل المجد والخير يُضْعف من قوة عدوه الذي يستغنى بما يبتز منه، ويتمتع بثروته، ويرتع في خيرات أرضه، ولو سرت هذه الروح الطيبة، وشعرنا بأن في أموالنا حقّاً للسائل والمحروم، ولواجب الرقي والنهوض المحتوم لرأينا أنفسنا في غنى عن كلّ عمل مسيء للنفس والمجتمع.
عجيب أمر المسلمين اليوم؛ يجود أحدهم في التافه الضار بدم قلبه وعرق جبينه وعصارة روحه، ويبخل بالنزر اليسير، يحقق به أنفع المقاصد، وأنبل الغايات، ويعتذر عن ذلك بالأزمة، وإن أشد منها فتكاً سوء التصرف وخطأ التوزيع.
قَليلُ المالِ تُصْلِحُه فَيَبْقَى *** ولا يَبْقَى الكثيرُ مَعَ الفسادِ
أيّها المسلمون، بلادكم مسكينة مهضومة، وهي تحاول أن تتخلص من تلك القيود والأغلال التي أثقلت كاهلها وأنهكت قوتها، ولا خلاص لها إلا بأموالكم؛ فإنّ القوة الاقتصادية والمالية أساس القوة الأدبية والاجتماعية، وأمامكم من مشروعات الوطن ما يدر عليكم الربح الوفير لو شجعتموه، وأنفقتم في سبيله، والإنفاق في هذا السبيل أجدى وأولى من هذا اللهو والعبث الذي ينكبُّ عليه الكثيرون، لا يفرقون بين ما يضر بلادهم وما ينفعها، وإنّ هذه الأموال إنّما هي جهود المكدودين البائسين، استخرجوها من الأرض بشق النفس، وتعبوا في تحصيلها تعباً ما عليه من مزيد، وليتمثل من يبذر في اللهو والعبث مستأجري أرضه، وكيف يحيون حياة البؤس والنصب لا يصيب أحدهم من الغذاء والراحة والمتعة إلا الحقير التافه ممزوجاً بالشقاء والعناء، وسيرى أن ما ينفقه في ليلة واحدة من ليالي أنسه ولهوه، إنّما هو جهد هؤلاء العاملين، إخوانه في الإنسانية والوطن أياماً غير قليلة.
أيها الأثرياء، إنكم مسؤولون عن هذه الأموال من الله – تبارك وتعالى –: من أين اكتسبتموها، وفيم أنفقتموها؟ رضيتم بهذا السؤال أم أبيتم؛ فأعدوا الجواب من الآن، واقرؤوا سيرة عظماء الأمم وأسلافكم الكرام في أموالهم وبذلهم؛ فإن تيقظت الضمائر، وتأثرت القلوب، وانبسطت الأيدي؛ فبشِّر الشرق بالخلاص والإسلام بالنصرة، وإن كان الموت قد امتد إلى ذلك الأمل، (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة/ 54).
أما بعد؛ فهذا شهر رمضان شهر السخاء والإنفاق، وأمامنا مشروعات كثيرة تهيب بنا إلى الإنفاق، فهل نأخذ أنفسنا في هذا الموسم بالتدرب والتمرين على البذل في سبيل الله؟!
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمّد/ 38).►
المصدر: كتاب كيف نستقبل رمضان
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق