• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شلالات الروح في كتاب الله

د. أبوبكر الصديق القاضي

شلالات الروح في كتاب الله

في قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرَّعد/ 17).

هنا تُخرس الكلمات ويُترَك للقلوب العنان.. هنا تستفيق القلوب من غفوتها وتستيقظ من غفلتها.. هنا تُباشر الحياة ومذاقها الرغد مع شلالات الروح، قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرَّعد/ 17).

فهذه الآية الكريمة فيها من البصائر والأنوار ما نحاول عنه كشف الأستار، فهذه الآية تحكي قصة الحياة طولاً وعرضاً، فالله أنزل من السماء ماءً طهوراً ليحيى به بلدة ميتاً ويسقى به أنعاماً وأناسيَّ كثيراً، هذا الماء به حياة الأبدان والأشباح.. وأنزل الله تبارك وتعالى من السماء أيضاً – وهي مصدر الخير والنور – الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح.

تتدفّق المياه من شلالات الماء الصافية النقية في أودية كلّ وادٍ على حسبه في السعة والضيف، فواد كبير يسع ماءً كثيراً ووادً صغير يسع ماءً قليلاً.. وفي ظل ذلك التدفق القوي للماء، ترى بعض القاذورات تتدفق على سطح الماء، فعلى قدر قوّة السيل والشلال على قدر انحسار تلك الشوائب والزبد على حافتي النهر ولا يبقى في الوادي إلّا الماء والطمي الذي يجعل الله منه كلّ شيء حي، هلا سمعتم وأنصتم.. أفلا تعقلون: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء/ 30)، وانظر إلى الأُفق الآخر..

شلالات الهدى والنور الثجاجة من القرآن والسنّة تتدفّق في الأودية الربّانية التي جعلها الله مستودع الأسرار ومحل نظر العزيز الغفّار.. ألا وهي القلوب والأرواح، فالقلب عالم كبير يسع الملكوت، ملكوت السماوات والأرض وهي آنية الله في الأرض، قال رسول الله (ص): "إنّ لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربّكم قلوب عباده الصالحين، وأحبّها إليه ألينها وأرقّها".

فقلب كبير يسع علماً كثيراً وقلب صغير يسع علماً قليلاً، وعلى قدر تلقي الوحي تتسع القلوب وتكبر وتصبح الأرواح عظيمة فتحوي ما يحبّه الله من صدق وإخلاص وتجرُّد وحب وخوف ورجاءٍ وأُنسٍ به وتوكلٍ عليه تبارك وتعالى، وتحوي عقلاً وفهماً عن الله مراده وكلام رسوله (ص) ومقاصد شرعه.. أرواح عظيمة تحمل أصحابها على البذل والإيثار والدعوة إلى الواحد القهّار تبارك وتعالى.. أرواح عظيمة تحث على النصح والرحمة بالخلق.. ألم ترَ إلى نبيّ الرحمة وربّه يعاتبه على رحمته على الكفار التي كادت تقتله (ص): (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف/ 6)، وقال رسول الله (ص): "إنما مثلي ومثل أُمّتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تَقحمون فيه".

ألا تسمع لذلك الصوت الآتي من الآخرة تشم منه عبق الجنّة الطاهر: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس/ 26-27)، ناصحاً لقومه في حياته وبعد مماته.

ألم تسمع إلى حكاية الله عن وجدان المؤمن الصادق المحب لربّه ودعوته: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (يس/ 30).

حسرات في القلوب السليمة على هؤلاء الذين خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها حُبُّ الله والتنعُّم بذكره تبارك وتعالى.. قلوب وأرواح تتدفَّق فيها شلالات النور أمواج متلألأة تغسل أرض القلوب من الشبهات والشهوات وتجرف على قدر قوتها الزبد من التصورات الباطلة والإرادات الفاسدة حتى تطيب أرض القلوب وتنبت من كلّ زوج بهيج، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال رسول الله (ص): "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فأصاب منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير".

فعلى قدر قوّة الشلال الطاهر من الهدى والعلم وخصوبة أرض القلب لتلقي ذلك يكون العمران، عمران القلوب ثمّ عمران الكون كلّه، ثمّ يضرب الله مثلاً آخر: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) (الرَّعد/ 17).

وهذا أُفق آخر وبُعد آخر فيه نرى المواجيد الربّانية في القلوب من شوق وحب وصبر وتوبة مع ابتلاءات كلمات الله (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) كالنار مع المعادن النفيسة تنقى عنها الخبث والكير فتخرج لامعة وهكذا القلوب تتلألأ كالكوكب الدري، كما ضرب الله لها مثلاً في القرآن: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النُّور/ 35).

فعلى قدر الابتلاء يكون الاصطفاء، وعلى قدر التعرُّض لنفحات الله تكون الرحمات والبركات لتصيغ القلوب الكبيرة والأرواح العظيمة.

وهنالك يبتان الحقّ من الباطل ويزهق ذلك الباطل من الأرض كلّها بعد وصوله في تلك القلوب الزجاجية النقيّة الشفّافة: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرَّعد/ 17).

لكي نفهم عنه لكي نعرفه لكي نعلم ولا يعقلها إلّا العالمون، هذا الزبد من الشهوات والشبهات وتجليات الباطل ومظاهره في النفس والمجتمع من رؤى نظرية وعمليات حركية لصدّ البشر عن طريق النور وكفّهم عن رؤية البراهين الشافية والآيات النورانية الباقية كلّ ذلك إلى الجُفاء إلى مزبلة التاريخ..

وأمّا الذي يبقى ويتصل بمعنى الخلود والبقاء، فهو ما اتصل بالباقي الوارث تبارك وتعالى من معنى جميل امتثل في القلب والروح وكلمة صدق خرجت من اللسان وحركة جارحة لم تتحرّك على الأرض وحسب، بل شقّت طريقها إلى السماء بعملها لوجه الله والدار الآخرة.

أخي يا مَن ترجو أن تكون من أصحاب القلوب الكبيرة والأرواح العظيمة، اسبح مع شلالات الروح واجعلها تغمرك بجمالها وأحضانها الدافئة مع استسلام وإخلاص، وتيقن أنّك ستهدى لسبيل الله وستخرج من الظلمات إلى النور.

جاهد نفسك وهواك وتَعَلَّم واعمل واصبر على مواجيد الشوق والحب، فإنّ المرء يبدأ الطريق حاملاً نفسه عليه وينتهي به الأمر محمولاً إلى الله برعايته وتوفيقه.

(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).

 

المصدر: كتاب شلالات الروح.. تأمُّلات جمالية في كتاب الله

ارسال التعليق

Top