• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

سعادتك في يديك

خليل حنا تادرس

سعادتك في يديك
◄مشكلة الكثيرين منّا أنّهم يستعملون رؤوسهم كثيراً جدّاً ولا يستعملون أيديهم إلا قليلاً جدّاً.

هناك سبب لما يشعر به الكثيرون منّا من القنوط والقلق والعصبية، هو أننا نستعمل رؤوسنا كثيراً جدّاً؛ بينما نستعمل أيدينا قليلاً جدّاً.

لقد وهبنا الله الأيدي لنعمل بها، وعندما يتركهما الإنسان ثقيلتين لا فائدة فيهما، فإنّه يحاول بذلك أن يعطل عملهما.. فيدفع الثمن حالات عصبية.

ذهبت يوماً لزيارة أحد رجال الأعمال البارزين، وعندما دخلت مكتبه، وجدته يتحدث في الهاتف، ويرسم صوراً وأشكالاً ورسومات كيفما اتفق على قطعة من الورق أثناء الحديث، وكان يقبض على القلم بقوّة، حتى لقد ابيضت عُقُلات أصابعه، وعندما أعاد السماعة إلى مكانها سألته وأنا أشير إلى هذه الدوائر والخطوط الملتوية التي لا معنى لها: ماذا حدث؟

فهز كتفيه وأجاب: لست أدري.. إنني عصبي.. وكان يجب أن أفعل شيئاً لتهدئة التوتر.

إنّ مشكلة هذا الرجل، وملايين آخرين مثله من الرجال والنساء، هي أنّه يحاول أن يحيا بعقله فقط.

أعرف محامياً بدأ يشعر أنّه أصيب بالركود؛ كان يعرف أنّ شيئاً ما ينغص حياته، ولكنه لا يدري ما هو بالضبط إلى أن خطر له يوماً أن يصنع مائدة صغيرة لغرفة الجلوس، ولم يكن قد صنع شيئاً من قبل بيديه؛ ولكنه أحضر الخشب والأدوات، وظل يعمل حتى منتصف الليل في الليلة الأولى.

وقال لي الرجل بعد ذلك:

لقد حدث لي شيء غريب، فما أن بدأت هذه المائدة تتشكل بين يدي، حتى شعرت أنني أبدع شيئاً فعلاً لأوّل مرّة في حياتي، وعندما كنت أعد الجزء الخاص بسطح المائدة لاحظت جزئيات الخشب البديعة، فاشتريت بعض الزيوت لأجعلها تبدو في صورة أفضل، وعندما بدا على الخشب ذلك البريق العميق، أدركت فجأة أنني أنجز شيئاً جميلاً، وأحسست بارتياح أعمق مما شعرت به بعد أن كسبت أوّل قضية كبيرة لي في المحكمة.

ولدى المحامي الآن ورشة في الطابق الأرضي من منزله يقضي فيها أكثر من خمس ساعات كلّ أسبوع؛ وقد قال لي ذات يوم:

- عندما أعمل في ورشتي، يتبدد كلّ ما يثير قلقي، ويصبح ذهني صافياً، كالهواء بعد العاصفة؛ إنني أعلم أنّ الأمر قد يبدو حماقة؛ ولكني بعد أن أنتهي من عمل شيء جميل أشعر بما لابدّ أن ليوناردو دافنشي قد شعر به وهو يتأمل لوحة (الموناليزا) بعد أن أتمها.

هذا الشعور ليس فيه أي شيء من الحمق، فهو إحساس سليم تماماً من الناحية النفسية، فكلّ مبدع يشعر بإحساس مماثل بالرضا عن عمله والتعبير عما في نفسه، سواء كان كرسياً للمطبخ، أو كاتدرائية من الطراز القوطي؛ فإنّ الأهمية إنما تكمن فيما تضعه في عملك بنفسك، لا فيما يعتقده العالم في نتيجته.

هذا فضلاً عن أنّه من الخطر حقاً ألا تستخدم يديك، فقد أثبتت التجارب التي قام بها خبراء الأمراض العصبية أنّ القدرة العقلية تزداد بازدياد القدرة على استخدام اليدين، فالعمل اليدوي يتطلب صفاء في التفكير، وحل مشكلاتك بنفسك، ويمكن معالجة حالات كثيرة من عدم الاستقرار العقلي بتعليم المريض كيف يستخدم يديه، فقد حدثني أحد كبار أطباء الأعصاب عن مريضة لديه في السابعة والعشرين من عمرها، وقال: إنّه يخشى أن تكون حالتها أصبح ميؤوساً منها تقريباً.

وقررت أن أزور السيدة، وأخذت معي قطعة من الصلصال، ووجدتها شاحبة الوجه، تبدو عيناها فارغتين، وكانت تنطق بعبارات متقطعة.

وفجأة أخرجت قطعة الصلصال من جيبي وقلت لها: أنظري، ثمّ شكلتُ وجهاً بسرعة، فحدقت فيه كالطفل وقالت: إفعل ذلك مرة أخرى.

فشكلتُ وجهاً آخرَ وهي تنظر إليه مأخوذة، ثمّ أخذتْ قطعة الصلصال من يدي، وقالت لي: دعني أجرب.

وأمضيت معها ساعة أعلمها كيف تصنع الخطوط الرئيسية في الوجه البشري.

وظللت أزور هذه السيدة مرة كلّ أسبوع لمدة سنة، وقمنا معاً بعمل عشرات من الوجوه والأشكال، وزادت أصابعها مهارة، وأهم من ذلك أنّ عقلها أصبح أكثر صفاء وسلامة بعد أن أصبح لعملها معنى لديها؛ وهي تعمل الآن مدرسة للنحت وأعمالها معروضة في كثير من المعارض المهمة.

لقد تكيفت مع الحياة في سعادة، لأنّها وجدت عملاً فيه إبداع تستطيع أن تمارس فيه ذكاءها، وتعبر عن شخصيتها.

إنّ تحويل هذه السيدة إلى فنانة ليس شيئاً عجيباً كما يبدو لأوّل وهلة، فإنني أعتقد أنّ كلّ كائن بشري يملك قوة حافزة مبدعة يستطيع أن يفعل بها أشياء جميلة، وأنّه يمكن بعث هذا الحافز واستخدامه بتشجيع مناسب، أما كبته فيؤدي إلى الخلل والاضطراب.

وخلال الأربعة والثلاثين عاماً التي أمضيتها في تعليم الشباب الفنون، لم أجد طالباً واحداً لا يتمتع بغريزة فياضة كامنة تتوق إلى التعبير. وقد قال لي شاب صغير مشاكساً:

-         إنني لم أتدرب على أي فن مطلقاً، أنّ أسرتي لا تتذوق الفنون، وأعتقد أنني كذلك لا أتذوقها.

وظل عدة أيام لا يستطيع أن يتمشى معنا، ولم يستوعب أي درس من مناهجنا الفنية كالرسم، والنحت والحفر، والموسيقى.. ثمّ حدث ذات صباح أنني وجدته في إحدى الورش منحنياً على المنضدة فسألته:

-         ماذا تفعل؟

-         فقال: أوه.. لا شيء.

ونظرت من فوق كتفه، فوجدت أنّه ينحت صورة كلب، فقلت له:

-         ولكنه جميل.. جميل حقاً، قد أستطيع أن أساعدك قليلاً في عمل هذا الساق.

وأخذ يرقب كلّ حركة من يدي ثمّ قال متنهداً: إنّ الأمر يبدو سهلاً جدّاً عندما تعمله أنت.

فقلت: لم يكن الأمر كذلك عندما ابتدأت وأشعل تشجيعي شرارة أطلقت الطاقات الخلاقة الكامنة في الفتى، فبدأ يلقي نفسه بحماسة في الحفر على الخشب.. وقبل أن ينقضي العام، أصبح عمله بارعاً كأي عمل يتم إنتاجه في المدرسة.

إنني لا أحث كلّ شخص على أن يكرس حياته للفن، ولكن كلّ شخص يجب أن يقضي قرابة ست ساعات كلّ أسبوع في عمل إبداعي؛ سمها "هواية" إذا شئت: ولكنها يجب أن تكون هواية يدوية يُغرِقُ فيها الشخص نفسه تماماً.

فلتكن البساتين، أو صنع الأواني الفخارية، أو الحفر على الخشب، أو صناعة النماذج، أو التصوير، أو هندسة الراديو، أو أي عمل ميكانيكي؛ وفي الإمكان إعداد قائمة لا نهاية لها من ألوان الأنشطة التي تخفف التوتر في الحياة البشرية، وتكفل إحساساً بالكمال الذاتي.

لا تقل إنّ وقت البداية قد فات أوانه؛ بل يجب لمن تذكر أنّ العمل اليدوي الإبداعي ضروري اليوم أكثر منه في أي وقت مضى.

لقد جعل عصر الآلة أعمالنا روتينية، وأضفى علينا شعوراً بالنقص بدفعنا في نظام اقتصادي معقد تبدو فيه جهودنا الفردية لا مغزى لها؛ إننا في حاجة للشعور بالثقة في النفس واحترام الذات؛ وهذا الشعور لا يتأتى إلا من رؤية شيء يتخذ صورته الكاملة بين أيدينا. ►

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ ستون طريقة لجعل حياتك أفضل

ارسال التعليق

Top