قد قال رسول الله (ص) في أوّل خطبته المشهورة: "أيّها النّاس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله تعالى بالبركة والرحمة والمغفرة". حقاً، إنّ هذا الشهر شهر الرحمة وشهر المغفرة. عن أبي عبدالله (ع)، قال: "إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان غفر الله لمن شاء من الخلق، فإذا كانت الليلة التي تليها ضاعفهم، فإذا كانت الليلة التي تليها ضاعف كلما اعتق إلى آخر ليلة في شهر رمضان يضاعف مثل ما اعتق في كلّ ليلة". وعن سعيد بن جبير، سألت ابن عباس: ما لمن صام شهر رمضان وعرف حقَّه؟ قال تهيأ يا ابن جبير حتى أحدثك بما لم تسمع أذناك ولم يمر على قلبك.. (إلى أن قال): سمعت رسول الله (ص) يقول: "لو علمتم ما لكم في شهر رمضان لزدتم لله شكراً. إذا كان أوّل ليلة منه غفر الله لأُمّتي الذنوب كلّها سرها وعلانيتها. ورفع لكم الفي درجة وبنى لكم خمسين مدينة، ثمّ ذكر لكلّ يوم من أيامه فضلاً عظيماً، (إلى أن قال): فإذا تم ثلاثون يوماً كتب الله عزّ وجلّ لكم بكلّ يوم مرّ عليكم ثواب ألف شهيد وألف صديق وكتب الله عزّ وجلّ لكم عبادة خمسين سنة وكتب الله لكم بكلّ يوم صوم ألفي يوم ورفع لكم بعدد ما أنبت النيل درجات وكتب الله عزّ وجلّ لكم براءة من النار وجوازاً على الصراط وأماناً من العذاب. وللجنة باب: يقال له الريّان، لا يفتح إلى يوم القيامة. ثمّ يفتح للصائمين والصائمات من أُمّة محمّد (ص). ثمّ ينادي رضوان خازن الجنة: يا أمة محمد، هلموا إلى الريان. فتدخل أُمّتي من ذلك الباب. فمن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يُغفر له". وفي حديث آخر: "إنّ لله ملائكة موكَّلين بالصائمين يستغفرون لهم في كلّ يوم من شهر رمضان إلى آخره وينادون الصائمين كلّ ليلة عند إفطارهم: ابشروا عباد الله، فقد جعتم قليلاً وستشبعون كثيراً. بوركتم وبورك فيكم. حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان: ناداهم ابشروا عباد الله، فقد غفر الله لكم ذنوبكم وقبل توبتكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون".
كيف لا يكون كذلك، وإنّ الصائم يعتزم ترك النميمة والغيبة والفحش والسباب وأكل أموال الناس بالباطل والكذب على الله ورسوله والنظر إلى ما حرم الله والجدل والمراء والخمر والميسر والربا وكلّ ما حرّم الله ورسوله (ص). فإنّ بتركه هذه الموبقات يوشك أن تحصل له طبيعة ثانية طاهرة وأن يصبح إنساناً كاملاً سوياً مقرباً إلى الله وموضعاً لرحمته وجزيل سيبه.
كم رأينا أناساً كانوا قد توغلوا في الشهوات والمدنسات، فتطهروا عنها بفضل شهر رمضان المبارك، فإنّه كما قال رسول الله (ص) في خطبته المشهورة "أيامه أفضل الأيّام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات". وذلك لأنّ الإنسان يشعر وهو صائم انّه يتقرب إلى ربه في كلّ لحظة وهو يذكر الله في كلّ آن، فكلما عطش أو جاع تذكر أنّه يطيع الله ويمتثل أوامره بتحمله هذا العطش وذلك الجوع، فيتوجه بكلِّه إلى خالقه وتقوي هذه الرابطة.
ما أحلى الصوم، فإنّه ذكر عملي لله تعالى، ويلي هذا التذكر ما يقوم به الصائم من أعمال خيرية مؤكدة في هذا الشهر: أدعية خاصة بالنهار دعاء عند الإفطار وغسل في ليالي الأفراد وأدعية بعد الإفطار وصلوات مستحبة في كلّ ليلة وتلاوة القرآن وحضور مجالس الوعظ والإرشاد والقيام بصلاة الليل عند السحر ومناجاة الله تعالى في الأسحار وقراءة أدعية السحر.
حقاً، إنّ هذه الأعمال توصل الإنسان إلى يقين كامل وإلى اطمئنان نفسي يكون العبد فيه كأنّه يرى الله تعالى ويناجيه.
ما أحلى الاستغفار والبكاء من خوف الباري عند السحر. وهو القائل: (وبالأسحار هم يستغفرون).
ونذكر من دعاء بي حمزة الثمالي المروي عن زين العابدين عليّ بن الحسين (ع) بعض فقراته. ليعلم هذا الإنسان المادي انّه لم يُخلق للدنيا فحسب، وإنما خلق لحياة خالدة، لـ(جنة عرضها السماوات والأرض اعدَّت للمتقين). فـ"الدنيا مزرعة الآخرة".
يقول زين العابدين (ع) في دعائه: "إلهي لا تؤدبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، من أين لي الخير يا رب ولا يوجد إلا من عندك، ومن أين لي النجاة ولا تُستطاع إلا بك... (إلى أن يقول): الحمد الله الذي أناديه كلما شئت لحاجتي وأخلو به حيث شئت لسري، بغير شفيع فيقضي لي حاجتي... (إلى أن يقول): معرفتي يا مولاي دلتني عليك، وحبي لك شفيعي إليك، وإني واثق من دليلي بدلالتك، وساكن من شفيعي إلى شفاعتك، أدعوك يا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه، ربِّ، أناجيك بقلب قد أوبقه جُرمه... (إلى أن يقول): وما أنا يا رب وما خطري، هبني بفضلك وتصدق عليّ بعفوك، أي ربِّ جللني بسترك واعف عن توبيخي بكرم وجهك... (إلى أن يقول): فوعزتك يا سيدي، لو انتهرتني ما برحت من بابك، ولا كففت عن تملقك لما انتهى إليَّ من المعرفة بجودك وكرمك.. (إلى أن يقول): سيدي لعلك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني أو لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فاقصيتني، أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلك رأيتي غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خليتني... (إلى أن يقول): وأعنِّي بالبكاء على نفسي، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عُمري، وقد نزلت منزلة الآيسين من خيري، فمن يكون أسوأ حالاً مني إن أنا نقلت على مثل حالي إلى قبرٍ لم أمهده لرقدتي ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي. وما لي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري. وأرى نفسي تخادعني وأيامي تخاتلني وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت. فما لي لا أبكي. أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكرٍ ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري: أنظر مرة عن يميني وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني... (إلى أن يقول): إلهي، إن عفوت فمن أولى منك بالعفو، وإن عذبت فمن أعدل منك في الحكم. إرحم في هذه الدنيا غربتي، وفي اللحد وحشتي، وإذا وإذا نُشرت للحساب بين يديك ذلّ موقفي. واغفر لي ما خفي على الآدميين من عملي، وأدِم لي ما به سترتني. وارحمني صريعاً على الفراش تقلبني أيدي أحبتي وتفضَّل عليَّ ممدوداً عن المغتسل يُغسلني صالح جيرتي وتحنّن عليّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي وُجد عليَّ منقولاً قد نزلت بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي، حتى لا أستأنس بغيرك يا سيدي".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق