تعالوا ندخل مغارة الماضي ننبش في صفحات دفاترنا القديمة، نختار ما نريد شطبه وما نريد محوه من حياتنا.
تعالوا نتخيل ونتمنى لو كان في حياتنا كما في جهاز الكمبيوتر زر الـ"Back Space" نعود به إلى التاريخ الذي نريد شطبه أو الحدث الذي لا نريد وجوده في خارطة حياتنا، لنستبدل به خيارات أخرى وأسماء أُخرى لا تجعلنا من الأعماق نندم على ما فات.
ها هو أمامكم زر الـ"Undo" فاختاروا التاريخ الذي لا ترجون وجوده في مذاكرتكم.
تخرج الآه من فم الصحافي محمد البخشونجي الذي فقد ابنتيه واحدة تلو الأُخرى: "هما يومان من عمري أتمنى أن يكونا مجرد كابوس".
لكن الحقيقة تقول غير هذا: "موت ابنتيّ لم يكن كابوساً، إنه حقيقة مرة لا تغيب عن ذاكرتي كل صباح حين أنظر إلى صورتيهما وأتنهد بعمق ووجع".
ولو كان أمامك يا محمد زر المحو؟
- "لكبست عليه مباشرة وغيرت الحقيقة واستبدلتها بحقيقة أُخرى تمد في عمر ابنتيّ". مرض الفشل الكلوي الذي أودى بحياة الطفلتين "مازالت رائحته تعبق في حياتي، إنه اليد التي خطفت ابنتيّ في غفلة مني، لأعيش عمري متحسراً على أحلى ابنتين في العالم".
تاريخا الوفاة "11/2/1198 و3/9/2006، نحس أدفع عمري كاملاً لأنجو منهما، ولكن ما حدث قد حدث".
الموت والذكرى ليسا كل شيء: "هناك ابني الذي يردد كلما جاء علينا العيد: "هل لبست شقيقتاي فستانيهما الأبيضين يا بابا؟". إنه يتواصل مع صورهما، كما لو كانتا موجودتين بالفعل. يسألنا كل عام دراسي: "لو كانتا معنا في أي صف كانتا الآن؟". أسئلة تقع على القلب كالحجر، وعلى السمع كالسهام التي لا تخطئ الهدف، ما يجعلني أعيش كل ليلة مع وهم قدرتنا على محو ما لا نريده من حياتنا، ولكنه وهم كبير، أعرف هذا".
- ياليت:
حلم هذا أم أمنية مستحيلة؟
بهذا الكلام تبدأ لطيفة زين حسرتها على عجزنا عن استعادة الماضي وتغيير ما لم نكن نريده: "لو كان ذاك الزر أمامي لقمت بمحو اليوم الذي خسرت زوجي وأنا ابنة في العشرين من عمري".
الكلام في الماضي، يجد صداه الأليم، في نبرة صوت لطيفة: "تخيلوا حال أرملة في العشرين، وفي يدها صبي صغير وحولها أربع بنات يمسكن أطراف ثوبها يسألنها عن أب لن يرينه طوال حياتهنّ".
فقدان الزوج والعائل والأب وشريك العمر لم يكن بالفقدان السهل: "لقد كتب عليّ القدر في ذلك اليوم أن أنسى الأنا التي تخصني وأتفرغ للأسرة التي باتت من مسؤوليتي، كتب عليّ في ذلك اليوم ألا أنظر في المرآة، أن أنسى لطيفة لأكون أماً، أماً وحسب، وسط هذه الصدمة التي غيرت مجرى حياتي وحياة أبنائي".
الأم التي ربت أربع بنات جامعيات وولداً صار اليوم طبيباً ناجحاً تتمنى مرة ثانية لو تمحو بالفعل لياليها الطويلة: "حياة الأرملة ليل طويل لا يمكن للمرأة العادية تصوره، ولكنه كان قدري الذي أعرف تماماً أنه مكتوب على الجبين".
- خيار:
أي ابتسامة قابلتنا بها علياء خليف؟ سؤالنا الافتراضي لمس عندها الوتر الحساس، كما تخبرنا: "أعيش كل يوم مع هذا السؤال الذي تحول إلى غصة لن تزول مادام في العمر بقية".
علياء التي حصلت على دكتوراه في الاقتصاد، من الولايات المتحدة، حيث تعيش، كان عليها ذات يوم أن تختار، "إنجاب ولد ثانٍ كان يحوّل دون إمكانية تحقيق حلمي في المجال العلمي، ما جعلني أختار وأحدد هدفي في الحياة، الذي كلفني في السنوات التالية المزيد من مشاعر الندم على ما لا يعوض".
لو كان أمام علياء الآن زر الـ"Back Space" لعادت إلى الوراء وغيرت اختيارها كما تخبر بأسف: "ما كنت لأحرم ابنتي من أخت أو أخ، يمنحها الأسرة التي لم تكتمل بسبب انشغالي بالدراسة".
غريزة الأمومة، على حد قولها: "لابدّ من أن تشتعل ذات يوم مهما تأخر موعدها، ففي البداية قد ننشغل بطموحاتنا ومشروعاتنا، من دون أن نحسب حساب العمر الذي لا يتوقف لامرأة ولا يمنحها فرصة التعويض ولا فرصة إصلاح ما حدث، ولكن فجأة تهبط علينا مشاعر خاصة، تملأنا رغبة في استعادة يوم واحد نعيد فيه حساباتنا ونستبدل خياراتنا ونحسم أمراً كان علينا أن نعد للمئة قبل المضي فيه".
العودة إلى الماضي لتصليح هفوات ارتكبناها حلم لا يمكن للمخيلة إلّا أن تبحر فيه، كما تخبرنا عندليب محمود: "يا ليت في إمكاني أن ألغي من حياتي الأيام كلها التي ظهرت فيها بلا حجاب".
إحساس المرأة بسعادة التواصل مع نفسها، يجعلها، "تحن إلى حقيقتها التي كانت غائبة عنها لوقت طويل، لهذا ما إن تتصالح مع نفسها حتى تتمنى لو تتمكن من العودة بذلك الـ (Back Space) إلى الوراء، وتلغي من حياتها ما كان".
زر المحو المتخيل موجود في حياتنا بشكل ملحٍّ على حد قولها: "من منا لا يقول يا ليت، ومن منا لا يغص كلما تذكر أياماً من ماضيه؟ زر المحو أمنية كنت أتمنى حدوثها كي لا أقف كل يوم أمام المرآة وأقول لو".
- تعليم:
في الوقت الذي يبدو فيه طلال عثمان راضياً عن حياته وإنجازاته المهنية، يخبرنا أن "الحلو لا يكتمل"، بحسب المثل، يتابع: "لو خير لي أن أعود بزر الـ (undo) إلى مرحلة ما من عمري، لعدت إلى حياتي الجامعية ودرست البزنس بدلاً من إنفاق الوقت في فرع الهندسة الذي لم أكمله".
"من الصعب على الرجل ألا يكون في مكانه المناسب"، يقول طلال، ويضيف: "المكان المناسب خير استثمار لطاقات الرجل وإمكاناته. كثيراً ما يبدد الرجال طاقاتهم في أماكن عمل لا تتناسب مع قدراتهم وطموحاتهم التي سرعان ما تنطفئ في مكان ميت".
طلال الذي يتحسر على عدم اختياره دراسة البزنس، يأسف على الوقت الذي راح منه: "في هذا الزمان بتنا نحسب حساب الوقت من أجل ألا تفوتنا الفرص التي ما كانت لتتأخر لو عرفنا منذ البداية أي الطرق علينا اختيارها".
لا يكاد يوم يمر في حياة صلاح عبيد (موظّف)، إلّا ويأسف فيه على بعض الأخطاء التي "يعرف الواحد منا أنها غير قابلة للتصحيح".
ويسأل: "كم من المرات نخطئ في حق الآخرين، ولو بمجرد كلمة تخرج من أفواهنا من دون قصد؟ وكم من المرات نقوم بإزعاج أحدهم إلى حد الإيلام من دون أن يكون لنا سابق نية في ذلك؟ ضغوط الحياة التي تضغط على أعصاب الإنسان تجبره على التفوه بكلمة أو القيام بتصرف يكلفه لاحقاً الكثير من القلق والكثير من تأنيب الضمير".
لكن أكثر ما يود صلاح العودة إليه بغية محوه من حياته: "مرحلة التبذير التي كنت أمارسها من دون حساب المسؤولية الملقاة على عاتقي. تجاه أسرتي وأبنائي. الرجل منّا يتمادى أحياناً في التبذير والصرف كأنه سيعيش عمره كله أعزب".
زر الـUndo من وجهة نظر صلاح "يجلب الحسرة لنا، إنه الزر الذي نستعمله يومياً في جهاز الكمبيوتر، ولكنه في لعبة الحياة زر وهمي لا وجود له".
- أهواء:
ذات يوم ترك المدرّب الرياضي رضا محمود بوراوي حلم الاقتصاد ليتبع هواه في ملاعب كرة القدم، "لم أفكر في تلك المرحلة من عمري في أي عالم يمكن أن يأخذني من عالم الكرة، كنت شاباً مغرماً بتلك اللعبة حد تنازلي عن دراستي".
مضي الإنسان وراء عاطفته يكلفه في ما بعد الكثير من سكرات الندم: "فنحن حين نحب ننسى ما حولنا، والحب ليس دائماً لامرأة، كرة القدم ذات يوم كانت حبي الذي قدمت له الكثير، ليمضي العمر وأجد نفسي أتمنى من وقت إلى آخر وجود زر المحو الذي نتحدث عنه لأجنب أحلامي خيبة أليمة".
رضا الذي يؤمن بأن ما فات قد فات، يضيف: "عدم وجود زر الـ Undo في حياتنا يتحول إلى محاولة حثيقة، في رؤية الحلم المفقود في أبنائنا. كثيراً ما يردد الآباء: حققت حلمي في ولدي، وهذا صحيح، فعجزنا عن استعادة الماضي وتصحيحه، يجعلنا نضع كل ثقلنا في أبنائنا، حتّى نرى فيهم ما لم نر في أنفسنا، وهذا ما حدث مع أبنائي، الذين درسوا الاقتصاد بدلاً مني، لكي يجعلوني لا أشعر بمرارة عجزي عن العودة إلى الماضي وتصحيحه".
تفاني المرأة في عملها، كما تقول هيلين رشيد، يأتي على حساب أشياء أخرى كالوقت الذي لا تنعم به مع أسرتها.
العودة إلى الماضي في حياة هيلين، "ستكون لأجل ضخ الدم في علاقتي العاطفية مع أبنائي. العمر الذي يمضي بسرعة يجعلني أتحسر على كل يوم لم أشارك فيه ابني وقته كما كنت أتمنى من أعماقي".
صعوبة التوازن بين عمل المرأة وأمومتها أمر لا جدال حوله، "خاصة حين تكون طبيعة العمل متطلبة وفي حاجة إلى وجود دائم ما يأخذنا عن غير قصد من أنفسنا وبيوتنا وأبنائنا".
زر المحو اليوم لم أتيحت لهيلين فرصة استعماله، "لكنت على الفور اخترت مرحلة الحاجة العاطفية التي عاشها ابني لأعوضه عن الفراغ الذي تركته في غيابي، وأنا مشغولة عنه بتأسيس مشروعي".
- بين التكيف والحسرة:
ما عمق الحسرة التي نعيشها مع تواريخ لا نتمنى وجودها في حياتنا الحاضرة؟
يجد الدكتور عابد أبو مغيصيب، طبيب نفسي، أن في حياتنا كبشر "أخطاء قد نرتكبها في الماضي ونحمل نتائجها معنا إلى الحاضر والمستقبل، فنعيش الندم حيناً والقهر حيناً آخر، لعجزنا عن تخطي ما خلفته تلك الأخطاء".
ويشدد على أنه "من الضروري أن نعرف أن البشر لا يتساوون في تقبل الحاضر بالدرجة نفسها"، هناك من يتخطى تاريخاً معيناً أو خطأ معيناً بقدرة مذهلة على التكيف، وهناك من يعيش حالة من الندم تحددها فداحة الخطأ الذي اقترفه، فيمضي عمره يجتر حدثاً ما كان ليمر في حياته بسلام".
ويشير الدكتور أو مغيصيب إلى مرحلة النضج التي يصل إليها الإنسان: "إنها توضح الرؤية عنده وتجعله أقرب إلى تحليل خياراته وأفعاله الماضية، فهي مرحلة صعبة ودقيقة من شأنها أن تدخل الإنسان في حلقة مفرغة من الندم والحسرة وتردد كلمة (لو) طوال الوقت".
ويدعو الدكتور أبو مغيصيب الإنسان إلى "معرفة أنه هو نفسه من اختار وهو من عليه أن يتحمل نتيجة اختياره، الذي ينعكس بطريقة أو بأخرى على وضعه الاجتماعي أو المادي أو العاطفي".
ويخلص إلى القول: "قد يلقي المرء نفسه في ورطة لا مخرج منها، ولكن الوقت الذي فات لا يمكن له أن يعود ويصحح الخيار من البداية".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق