من أجل هذا كلّه، فإنّه ينبغي أن يكون الحوار والتفاعل بين الثقافات والحضارات، حواراً هادفاً مؤثراً، وتفاعلاً وبانياً، يجب أن يقوما على قاعدة الاحترام المتبادل، بالمعنى الأخلاقي الرفيع، وبالمدلول الحضاري السامي. كما يجب أن يقوم الحوار والتفاعل بين الثقافات والحضارات، على قواعد اجتمع البشرُ على صحّتها وسلامتها، وانعقد إجماع الإنسانية على اعتبارها القانون الذي يحكم المجتمع الدولي، حتى يكون الحوار والتفاعل الحضاري في هذا الإطار، مستندين إلى الشرعية الدولية، وإلى قواعد القانون الدولي، بحسبان أنّ هذه الشرعية، وهذه القواعد، هي القواسم المشتركة بين جميع الشعوب والحكومات في عالمنا المعاصر، وهي المرجعية المتفق عليها، بينما المرجعيات الدينية والثقافية والحضارية جميعاً، هي محل اختلاف وخلاف، وموضع تنازع ونزاع، بل هي مصدرٌ صراعٍ نراه نحن أبناء الثقافة والحضارة الإسلاميتين، ومن وحي هذه الثقافة وهذه الحضارة، تدافعاً بين الشعوب والأمم، وبالتالي بين الثقافات والحضارات.
وهكذا يصير الحوار المفضي إلى التفاعل الحضاري، فعلاً إنسانياً مؤثراً في حركة التاريخ، وعنصراً مساعداً في استتباب الأمن والسلام على الأرض، وقوة دفع لاستقرار الحياة الإنسانية، ولازدهارها، ولرقيها.
إنّنا لا نريد حواراً وتفاعلاً بين الثقافات والحضارات، هما مجرد ترف فكري، ولا نريد حواراً وتفاعلاً بين الثقافات والحضارات لا تكون لهما انعكاسات على الواقع المعاصر، ولا تصل آثارُها إلى دوائر صنع القرار، ولا نريد حواراً وتفاعلاً بين الثقافات والحضارات، ينطلقان من الإحساس بالتفوق العنصري، وبالاستعلاء الحضاري، ويصدران عن روح الهيمنة الثقافية.
إنّه ينبغي أن يكون هدفنا الرئيس من السعي إلى إقامة الحوار الذي ينتج عنه التفاعل الحضاري بين أهل الثقافات والحضارات، ومن هذه المنطلقات تحديداً، هو إشاعة قيم التسامح بالمعنى الراقي للتسامح، كما يفهمه المؤمنون بالله، والمؤمنون بوحدة الأصل الإنساني، وبوحدة المصير الإنساني أيضاً.
وهدفنا من إقامة الحوار المحقّق للتفاعل بين الثقافات والحضارات، هو التعارف بالمعنى القرآني السامي، الذي هو الأصل في تعامل الشعوب والأمم بعضها مع بعض، وفي تشارك بعضها مع بعض، وفي تعاونها على الخير، وعلى العدل، والحقّ، والأمن السلام. قال تعالى: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).
واعتقد أنّ هذا الضرب من الحوار بين الثقافات والحضارات، هو الأمل المنشود، وهو الترياق الشافي من الأمراض والعقد الثقافية والفكرية والحضارية، التي تتسبّب في الاختناقات السياسية، وتؤدي إلى الأزمات الاقتصادية، وتخلق الاضطرابات الاجتماعية، وهو رسالة التفاعل الحضاري في عالم سريع التغيّر، مقبل على آفاق جديدة سيكون على الإنسانية فيها أن تتقارب بوتيرة أسرع، وأن تتبادل الأفكار والآراء والثقافات في إطار من المرونة والسماحة، مما يقتضي أن يكون العالم العربي الإسلامي، جاهزاً ومستعداً للمشاركة العملية النشيطة، ولممارسة الفعل الحضاري المؤثر، ومن تحقيق التفاعل الحضاري الذي يضمن المصالح العليا للأُمّة الإسلامية.
إنّ التفاعل الحضاري في عالمٍ يبحث عن نظامٍ جديدٍ لم يهتد إليه بعد، محكومٌ عليه أن يكون تفاعلاً إيجابياً. ويمكن في هذا السياق أن نستخدم كلمة تثاقُف، للدلالة على تفاعل إيجابي عند الاحتكاك بين الثقافات، بحيث إنّه عندما تدخل ثقافتان وحضارتان في اتصال واحتكاك، فإذا كانت السمات الثقافية التي يجري تبادلها تتوازن وتحافظ كلّ منها على هويتها وحركيتها الذاتية الخاصتين، بعد إدماج العناصر الأجنبية واستيعابها، يتحقق ذلك تثاقفٌ أو تفاعلٌ ناجح، ولكن عندما لا يتجسّد الاتصال في تبادل متوازن، بل في تدفق في اتجاه واحد، فإنّ الثقافة المتلقية تكون مغزوةً ومهددةً في وجودها ذاته، ويمكن اعتبارها في هذه الحالة، ضحية عدوان حقيقي. وإذا كان العدوان فوق ذلك، مادياً، فهذه هي الإبادة الجماعية، أما إذا كان العدو رمزياً، فإنّ الإبادة الجماعية لا تكون سوى ثقافية فحسب، أي إبادة إثنية، وهي أعلى مراحل محو الثقافة.
ولن ترضى الأُمّة الإسلامية أن يكون التفاعل الحضاري غزواً للثقافة الإسلامية، ومحواً للحضارة الإسلامية، وذوباناً في ثقافات الأُمم، واندماجاً في حضارات الشعوب.
إنّ العالم العربي الإسلامي يمدّ جسور التعاون والتقارب والتفاعل مع الأديان السماوية والثقافات والحضارات جميعاً، دون استثناء، وهو يتطلع إلى مواقع له مشرفة في القرن الحادي والعشرين، ولن يرضى أن يكون ضحية تغريب العالم، بأية حال من الأحوال، من خلال تفاعلٍ حضاريٍّ فاقدٍ لمعنى العطاء المتميز، والاستيعاب الذكي، والمنفعة المتبادلة.
إنّ الحوار الحضاري هو النمط الأرقى من الحوارات التي تجري بين الفئات المثقفة من البشر، وهو لا يرتبط بشكل محدد، ولا بصيغة معينة، ولا بمكان أو زمان، ولكنه مجموع العمليات التفاعلية التي تتم على مختلف المستويات، السياسية والاقتصادية، الثقافية والفنية، الاجتماعية والإعلامية. ولابدّ أن يكون للعالم العربي الإسلامي مشاركة فاعلة ومؤثرة في جميع أنماط الحوار، وبصفة أخص الحوار الحضاري الذي يعدُّ المدخلَ الرئيسَ إلى التفاعل الحضاري.
وحيث إنّ العالم من حولنا في تغيّر سريع الإيقاع، وفي كلّ الجهات، لا يجوز أن يفوتنا قطار التغيير حتى نساير العصر الجديد، أو حتى لا نتخلف عن مسيرة التاريخ العالمي والحضاري العام. ويترتب على كلّ هذا التغيير في مجالات الاقتصاد والسياسة، بل في الفكر السياسي والثقافي العام، دخولنا إلى عصر حضاري جديد طلع على البشرية قبل انتهاء القرن العشرين الذي سيسجل تاريخ الإنسانية أنّه كان قرن التحوّل العظيم في الصلاة والعلاقات الدولية، وأنّ من يتخلف عن مسيرته إنما يتخلف عن مسيرة الإنسانية نحو مستقبل لابدّ أن يكون مختلفاً عن عصرنا الذي نخرج منه.
ويتوقف هذا التغيير الحضاريُّ العميق الشامل، على مدى مساحة الحوار الداخلي بين أبناء الشعب الواحد من الشعوب العربية الإسلامية، وعلى مستوى هذا الحوار الوطني، وعلى حجم تأثيره في تعميق الوعي الحواري، والتمكين لثقافة الحوار، باعتبار أنّ هذه هي الخطوة الأولى نحو الانفتاح على العالم من حولنا، ومدّ جسور التعامل الراقي معه، وإقامة علاقاتٍ حواريةٍ مع جميع فئاته ومكوّناته ومع الأطراف ذات الاهتمام، وذلك من منطلق المشاركة الحضارية الواعية الرشيدة، من موقع التميّز الحضاري، باعتبارنا أمةً ذات رسالة سامية وحضارة إنسانية. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق