جعل الله سبحانه وتعالى الشهور عنده إثنا عشر شهراً، وميَّز كلّ شهر منها بخصوصيات غيبية لا تصل إليها عقول البشر، ففرض في بعضها الصوم وفي بعضها الآخر الحج وأخرى غير ذلك. ثمّ ميَّز بعض الشهور عن بعض بأن جعل بعضها أشهر حُرم، حرَّم فيها القتال والمنازعات التي تؤدي إلى سلّ السيوف وبغي بعضٍ على بعض. كلّ ذلك لحكمة إلهية ربما تكون في بعضها غير معروفة، ثمّ أضيفت على ذلك مناسبات دينية شريفة حدثت في بعض الشهور حتى امتاز فيها على غيرها مما جعل لها ميزات إضافية، وزادت فضله فضلاً. فإذا أردنا أن نُعبِّر عن الأشهر الحُرم، فإنّها تمثِّل الواحة الزمنية للسلام، فقد أراد الله أن تكون هناك واحة سلام في المكان، وهي الحرم الذي يشمل مكّة ومنى والمشعر الحرام وما يقرب منهما، فهذه المنطقة أراد الله للناس أن يعيشوا فيها السلام من حيث المبدأ، فليس لإنسان أن يقاتل إنساناً في داخلها حتى لو كان له ثأر عليه، بل إنّ الإنسان لا يقتل الصيد هناك فالصيد فيها حرام. المطلوب هو أن يعيش الإنسان في سلام مع نفسه ومع ربّه ومع الإنسان الآخر ومع الحياة وربما مع البيئة ليتنفس الناس في هذا المكان روح السلام ليراجعوا حساباتهم فيما يتحرّكون به في الأمكنة الأخرى فلعلّهم يستطيعون أن يأخذوا من روحية السلام في البلد الحرام روحية السلام في بلد آخر. وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هناك واحة سلام في الزمن فلا تكون لك الحرّية في حركة الزمن أن تنفتح على عداواتك وخصوماتك مع الآخرين، لأنّ الله الذي هو السلام يريد للحياة أن تعيش السلام في خطّه وفي لطفه، ولذلك أراد للناس أن يأخذوا هدنة طبيعية شرعية في كلّ حروبهم ومنازعاتهم ومشاكلهم وثاراتهم حتى يملك الإنسان نفسه ليهدئ كلّ هذه الضراوة الداخلية التي تدفعه إلى أن يقتل أو يقاتل ثأراً كان أو غير ثأر، حتى فيما لك فيه حقّ طبيعي؛ لكن الله استثنى حالة العدوان، فلك الحقّ إذا اعتدي عليك في البلد الحرام أو في الشهر الحرام أن تدافع عن نفسك لأنّه لا خيار لك إذا هاجمك الآخرون واخترقوا حرمة الشهر أو حرمة البلد إلّا أن تدافع عن نفسك وعن قضيتك بمقدار الضرورة.
نحن نريد أن نعيش روحية السلام في شهر السلام الذي هو الشهر الحرام، أن نعيشها في حياتنا الاجتماعية وفي حياتنا السياسية، فإذا كان الله قد أراد لنا في الدائرة الإسلامية أن لا نقاتل بعضنا بعضاً على مستوى حركة السلام، فإنّ الله لا يريد لنا في هذا الشهر الحرام أن نعيش التعقيدات النفسية العدوانية التي تُهيّئ العقل والقلب والحركة للدخول في حرب قد لا يأتي وقتها في نفس الشهر؛ ولكنّه يمكن أن يأتي في شهر آخر.
إنّ قضية أن نعيش السلام في داخل الواقع الإسلامي هي أن نُهيّئ للناس أن يعيشوا هذه الروحية لتتحوّل إلى سلام في الواقع، لأنّ الخطة الإسلامية هي أن يعيش الناس في سلام من خلال فكر السلام الذي ينطلق على أساس الحكم الشرعي، فالله سبحانه وتعالى قد حرَّم القتال لمصلحة السلام، وهذا ما نحتاج أن نعيشه في أنفسنا لتنطلق في هذا الشهر الذي يتميز عن الأشهر الحرم الأخرى بأنّه يختزن في داخله الكثير من أجواء العبادة ومن روحية العمل التي تتقرّب به إلى الله صلاةً وصياماً وابتهالاً ودعاءً وتسبيحاً وما إلى ذلك، مما يقوّي في روحك علاقتك بالله، فكلّما قويت علاقة الإنسان بالله أكثر تحسس مسؤوليته عن عباد الله أكثر، وكلّما انفتح عقله على الخلق أكثر، وقلبه على الخير أكثر، وحركته على العدل أكثر، كان أقرب إلى الله تعالى. ومن هذه الشهور وما تميّزت به من خصوصيات تكوينية وتشريعية هي شهر رجب ويتبعه شعبان اللذان نحن على أعتابهما. فقد تميّز شهر رجب بأن جعله الله تعالى شهراً حراماً من الشهور الأربعة التي حرَّم فيها القتال لحرمته، كما جعله من الشهور التي يقبل فيها التوبة من عباده، حتى ورد الحثّ الكثير على استحباب الاستغفار والتزوُّد بالتوبة والتوجه إلى الله تعالى في غفران الذنوب والاعتراف بما سلف في الماضي من المعاصي والخروج عن العبودية والاستهوان بأمر الله سبحانه. وقد جاء حثّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في نصوص كثيرة، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «رجب شهر الاستغفار لأُمّتي.. أكثروا فيه الاستغفار فإنّه غفور رحيم.. استكثروا في رجب من قول أستغفر الله، واسألوا الله الإقالة والتوبة فيما مضى والعصمة فيما بقي من آجالكم.. ثمّ قال: وسُمي شهر رجب شهر الله الأصب لأنّ الرحمة على أُمّتي تصب صباً فيه، ويقال: الأصم لأنّه نهي فيه عن قتال المشركين وهو من الأشهر الحُرم...».
ويتضح من هذه الرواية الشريفة أنّ الله سبحانه وتعالى أوعد عباده المؤمنين بالنظر إليهم في هذا الشهر والعود عليهم مغفوري الذنوب؛ لكن بشرط الإنابة منهم واللجوء إليه سبحانه والاعتراف بهتك حرمته والتعدي على قوانينه الشرعية، فإنّ الله سبحانه يقبل فيه التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات التي انتابت العبد بجرمه وتعديه. فهو شهر من الشهور التي يفتح الله فيه أبواب التوبة والعفو، فعلينا التوجه إلى ما أمر الله تعالى به من حسن التوبة والنزوع عمّا كنّا عليه من المعاصي والآثام.
وقد ذكروا للتوبة فوائد جمّة لعلّ من أهمّها هي الاستكانة التي تنتاب العبد وهي من أهم العوامل الرابطة بين العبد وسيِّده والتي تحقق نوعاً من اللجوء إليه ومعرفة الجميل لديه. وإن كانت نِعم الله سبحانه أسبق من ذلك بكثير فهو صاحب النعمة والبادئ بالفضل، إلّا أنّ شعور العبد بخروجه من حضيض استحقاق العقوبة إلى أوجه العبودية والرعاية من سيِّده وخالقه يولِّد فيه شعوراً بالكرامة والاعتزاز والأهمية فيشتد ارتباطه بمولاه فقد يحسن أداءه فيما يأتي من عمره. وقد أضاف الله سبحانه وتعالى لهذا الشهر فضلاً وأهمية على ما هو عليه من الفضل بأن جعل فيه أعظم المناسبات الدينية شرفاً وأبعدها غوراً وأعلاها رتبة ألا وهي مناسبة مبعث سيِّد الأوّلين والآخرين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، بعثه بالرحمة والهداية للبشرية وجعل شريعته خاتمة الشرائع وقد سنّ للبشرية سنناً تضمن لهم سعادة الدار الآخرة، إضافة إلى ما تحويه من النظام المحكم والتنسيق المنقطع النظير للحياة الاجتماعية لو سنحت الفرصة لتطبيق ذلك. وأضاف إلى ذلك الفضل فضلاً والشرف شرفاً بأن كانت ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام)، سيِّد البشر بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الشخصية المثالية التي لم يعرف التاريخ مثيلاً لها بعد خاتم الأنبياء.
وهناك مناسبات دينية أخرى.. فحري بنا أن نقف متأملين هذه المناسبات الشريفة ومستمدين منها العظات عرفاناً منّا بالجميل لأصحابها وربطاً لنا بهم وشدّاً لقلوبنا اعتقاداً بهذا الدِّين، وإيماناً بما جاء به النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق