• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

خصوصيات فريضة الحجّ والبيت الحرام

عمار كاظم

خصوصيات فريضة الحجّ والبيت الحرام

ينطلق الناس إلى بيت الله الحرام ليؤدّوا الحجّ كفريضة فرضها الله على مَن استطاع إليه سبيلاً، أو كمستحبّ استحبّه الله لمن أدّى هذه الفريضة، أو لمن تطوّع بذلك. ونحن نعرف أنّ الله عندما يكلّفنا بشيء، فإنّه لابدّ من أن يشتمل على الكثير ممّا يصلح حياتنا ويرتفع بمستوانا، سواء في الجانب الروحي أو الجانب المادّي منه، لأنّ كلّ التكليف الإلهيّ ليس شيئاً يخصّ الله، بمعنى أن يحصل له نفع من ذلك، بل هو من أجل أن تكون الحياة للإنسان أفضل وأغنى وأرحب وأقوم، وذلك هو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/ 24).. فالإسلام كلّه دعوة إلى الحياة، فكلّ ما أمرنا الله به، فهو ينطلق من عناصر حيّة تمنحنا روح الحياة وحركيتها وخطّها المستقيم، كما تنفتح بنا على حياة أُخرى أكثر خلوداً وأكثر نعيماً وأكثر سكينةً وأكثر طمأنينة (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64).

وقد تعبّد الله بالحجّ عباده منذ النبيّ إبراهيم (عليه السلام)، وجاء الإسلام فأضاف إليه شروطاً وأحكاماً، وحدَّد له أهدافاً ورسم له خطوطاً، من أجل أن يحقّق للإسلام الدور الكبير في الحياة في فاعلية وامتداد، فلم يقتصر فيه على جانبٍ واحدٍ من جوانب التربية، بل استوعب المعاني التي تنطلق في العبادات الأُخرى. لذلك عندما نريد أن ننفتح على كلّ ما أمرنا الله به وما نهانا عنه، فعلينا أن لا نفكّر في أنّه عبء ثقيل علينا، يثقل أوقاتنا أو يثقل أجسادنا أو مشاعرنا، لأنّه في عمق معانيه، يفتح حياتنا على الأفضل، ونحن نعرف أنّ الإنسان لا يستطيع أن يقطف الزهرة إلّا إذا جرحته الأشواك المحيطة بها. ولذلك، فإنّ الجراحات التي تجرح مشاعرنا أو أحاسيسنا أو أوضاعنا من خلال ما كلّفنا الله به هنا وهناك، ما هي إلّا وسيلة من وسائل اقتطاف وردة الرضوان الإلهيّ والنعيم الإلهيّ والسعادة الإلهيّة في الدُّنيا والآخرة، فالناس يقصدون بيت الله الحرام ليعيشوا ذلك من خلال مكابدة المشاقّ التي تفرضها المناسك.

وقد حدّثنا الله عن خصوصيات هذا البيت، وعن ظروف تأسيسه، وعن روحية الشخص الذي أسَّسه وبناه، وعن الأُفق الواسع الذي كان يفكّر فيه ويحلم به ويدعو الله أن يحقّقه، وعن الخطّ الذي رسمه الله له في نهاية المطاف. فلنبدأ مع القرآن الكريم، ومع إبراهيم (عليه السلام) (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة/ 125)، فالله أعدّه حتى يقصده الناس ويثوبوا إليه ويجلسوا عنده آمنين، كما أنّ الله جعله منطقة سلام في آية أُخرى (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 97)، فليس لأحد أن يعتدي على أحد في هذا البيت وبما يحوطه من الحرم الذي جعله الله آمناً ببركة البيت.

ويقول تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة/ 125)، لأنّ إبراهيم هو الذي بدأ الصلاة هناك، ليشير إلى الناس قائلاً: تعالوا إلى الصلاة هنا، اتّخذوا هذا المقام مصلّى، لأنّه أطلق الصلاة من خلال هذا البيت. وصلاة إبراهيم (عليه السلام) هي الصلاة التي ليس فيها شيء للذات، وليس فيها شيء للجسد، وليس فيها شيء للناس (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 131)، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 162-163)، فهي صلاة تنفتح على الله بكلّ عناصرها وبكلّ مواقعها. ولذلك، يمكننا أن نستوحي من اتّخاذ مقام إبراهيم مصلَّى، أنّ صلاة إبراهيم هي النموذج الأعلى للصلاة فيما انطلقت الصلاة منه في التاريخ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) (البقرة/ 125)، باعتبار أنّهما اللّذان أسّسا البيت ورفعا قواعده.

لذلك، اعتبر الله سبحانه وتعالى ملّة إبراهيم، هذه الملّة المنفتحة على الإسلام العقلي والقلبي والقلبي والروحي واللساني والجسدي كلّه، اعتبرها هي الملّة الأساسية التي خطّطت لكلّ الرسالات التي جاءت من بعده.. ولذلك أيضاً، قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة/ 130)، لأنّ الله اصطفاه نبياً ورسولاً وإماماً وخليلاً وهو في الآخرة من الصالحين (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). وهذا هو الإسلام العامّ؛ الإسلام المطلق الذي يفرض على الإنسان أنّه عندما يقف أمام ربّه، فعليه أن يسلم كلّه لربّه، وأن لا يكون هناك شيء خارج إرادة ربّه.

ارسال التعليق

Top