• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

جنة آدم «ع» والمعصية

الشيخ نعيم قاسم

جنة آدم «ع» والمعصية

 

قال تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 35-38).

وجودُنا على هذه الأرض ليس عقوبةً، بل للاختبار والامتحان، حيث يفوز الناجحون بالحياة الخالدة السعيدة.

 

1- جنة آدم (ع) ليست جنة الخلد:

قال تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)، أي جنّة هذه؟ إما أن تكون على ربوةٍ مرتفعةٍ من الأرض، لقوله: (اهْبِطُوا مِنْهَا)، أي من المكان المرتفع إلى المكان المنخفض، وإمّا أن تكون في مكان ما في السماء، ولكنها ليست جنّة الخلد.

يُقال جنة للمكان المزروع، الذي تكثر فيه الأشجار والنباتات، ويطغى فيها اللون الأخضر والجمال، وقد ورد في القرآن الكريم قصة مَن تباهى بجنتيه: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) (الكهف/ 32)، فالجنّة هنا بستان في مكان من الأرض، وليست جنّة الخلد. سُئل الإمام الصادق (ع) عن جنّة آدم (ع)، فقال (ع): "جَنّةٌ من جِنانِ الدنيا، تَطْلُعُ فيها الشمسُ والقمرُ، ولو كانت من جنان الآخرة ما خَرَجَ منها أبداً". إذاً جنّة آدم (ع) ليست جنة الخلد، إنما قضى فيها حياةً مؤقتة، ثمّ خرج منها واستكملها في الأرض لفترة مؤقتة أيضاً، بانتظار يوم الحساب إلى جنة الخلد له وللمؤمنين، وإلى جهنم الخلد للكافرين.

 

2- ماهية الشجرة:

(وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 35)، تستطيعان العيش في هذه الجنّة عيشة هنيئة ورغيدة، وتأكلا من كلّ شيء فيها، ما عدا هذه الشجرة ما هي هذه الشجرة؟ يرغب الإنسان دائماً أن يتعرّف على التفاصيل، ولكن الله تعالى يختصر في القصص القرآني بمقدار ما نحتاج معرفته، فيفصِّل حيث يكون للتفصيل أهمية، ويركّز على الأهداف فيقتصر على عرض مورد الحاجة حيث لا قيمة للتفاصيل، قال بعضهم: الشجرة هي شجرة تفاح، وقال آخرون: شجرة سفرجل، وقال غيرهم: هي شجرة مرّة الطعم والمذاق، وأشار آخرون إلى أنّها حيّة ترمز إلى إبليس... ولكن هذه الأقوال لا سند لها. وبما أنّ الله تعالى قال: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، فاللذان يعرفانها هما مَن أشار الله تعالى إليهما، أي: آدم (ع) وحواء. وأما عدم ذكره لنوعية الشجرة، فلأنّ العبرة في تنفيذ أمر الله تعالى بعدم الاقتراب منها، فلا خصوصية لطبيعة الشجرة.

(فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، بمعنى ظلم أنفسكما، لا بمعنى الظلم للآخرين، فعندما يتجاوز الإنسان بعض القواعد أو الأوامر يظلم نفسه.

 

3- تفسير معصية آدم (ع):

هل يمكن لآدم (ع) وهو نبيٌّ معصوم أن يخطئ؟ والمعصوم لا يخطئ ولا ينسى ولا يسهو، فكيف إذاً جرى ما جرى كما في الآية الكريمة: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)؟ (البقرة/ 36)، كانا في جنة آدم (ع)، التي فيها الرغد والعيش الجميل، ثم اقتربا من الشجرة، فعصيا ما أمر الله تعالى بالامتناع عنه، فكانت النتيجة الخروج منها. وضّح صاحب تفسير الميزان السيد الطباطبائي (رحمه الله) الأمر، عندما ميّز الأوامر الإلهية بين أوامر مولوية وأوامر إرشادية. الأمر المولوي هو الأمر الذي تُعتبر مخالفته معصية وخطيئة، أما الأمر الإرشادي فهو من باب النصيحة ولا تعني مخالفته ارتكاباً للمعصية. هنا أمر الله تعالى لآدم (ع) لم يكن أمراً مولوياً، ولو كان كذلك، فخالفه آدم (ع)، لا يكون معصوماً، وهذا خلاف الواقع. نعم ستترتب آثارٌ على مخالفة الأمر الإرشادي، يتحمّلها المخالف، لكنها ليست خطايا يُحاسب عليها.

نقرأ في سورة طه: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (120-121). ظهرت آثارُ مخالفة الأمر الإرشادي مباشرة، بمجرد أن أكَلا من هذه الشجرة، بدت لهما سوآتهما، وهذا ما لم يشعرا به قبلاً، فالأكل هو الذي سبَّب لهما ذلك.

لم يكن آدم (ع) في وارد أن يعصي الله تعالى، فالأمر إرشاديٌّ في دائرة النصح. إذاً كيف وقع في هذا الاختبار؟ يُبيِّن لنا تعالى بأنّ السبب إبليس (لعنه الله): (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف/ 21).

ذكر بعض المفسرين بأنّ آدم (ع) لم يكن يعلم بوجود مَن يكذب، فعندما أقسم إبليس، ظن آدم (ع) وحواء بأنّه ناصح لهما، فصدّقاه، وأكلا من الشجرة، فبدت لهما سوآتهما، (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (الأعراف/ 22). لولا أنّهما أكلا من الشجرة لما بدت لهما سوآتهما، لكن الله تعالى أمرهم بأمر، وهما لا يعرفان ما سيترتّب على هذا الأمر الإلهي.

قال الله تعالى وبشكل واضح في سورة طه: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، كلمة (وعصى) في اللغة العربية تعني أنّه لم ينفذ الأمر، فإذا كان الأمر مولوياً ولم ينفذه فقد ارتكب معصية يعاقب عليها، وإذا لم ينفذ الأمر الإرشادي فهي مخالفةٌ لا عقاب عليها. وقد عصى آدم (ع) الأمر الإرشادي الذي لا عقاب عليه، ولكن ترتبت آثاره التي أرادها الله تعالى في الانتقال إلى الأرض.

 

4- مسؤولية آدم (ع) وحواء:

يحمِّل البعض حواء المسؤولية، بأنّها دفعت آدم (ع) ليأكل من الشجرة! علماً بأنّ الآيات والروايات تتحدث أنّ إبليس وسوس لهما، وخاطبهما معاً، لاحظوا الآيات الكريمة:

(وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، وبعدها (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ)، فالشيطان أزلَّ الاثنين، ولم تُزِل حواء آدم (ع)، وأخرجهما الشيطان مما كانا فيه، ولم تُخرج حواء آدم (ع). وقال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) (الأعراف/ 20)، فآدم (ع) وحواء كانا مستهدفين من الشيطان، ولم يُعِن أحدهما الشيطان على الآخر، وخاطب الشيطان كليهما: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأعراف/ 20)، ثم كانت النتيجة: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ).

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، الخطاب لآدم (ع) وحواء والشيطان بأن يهبطوا إلى الأرض، والعداوة بين الشيطان وبني البشر، وكذلك بين بني البشر عندما يتخذ بعضهم مسار الشيطان في مقابل الإيمان، فالعداوة نتيجة الأفعال السيئة التي يرتكبها هؤلاء البشر، لا أنّ الله تعالى يُريدهم أعداء، وهذه هي نتيجة القانون الإلهي في خلق البشر مختارين للخير أو الشر، ومتنازعين لاختلاف خياراتهم على هذه الأرض. الحياةُ مؤقتةٌ في الأرض، ففيها العمل والمتاع المؤقت والبلاء والعداوة ثمّ الفناء، (وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)، أما الاستقرار ففي جنة الخلد.

 

5- الحياة على الأرض:

هل ورّط آدم (ع) البشرية فخلقها الله تعالى على الأرض؟ لا، لأنّ إرادة الله تعالى أن يُخلق البشر على الأرض، وإرادته أن يُدخل آدم (ع) مؤقتاً إلى الجنّة المذكورة، ثم بعد ذلك يجري معه ما جرى فينزل إلى الأرض بأمرٍ من الله تعالى. ثمّ أوجد باقي البشر بالتناسل، باستثناء عيسى (ع) من دون أبٍ، فهذه إرادته، فآدم (ع) لا يتحمل مسؤولية وجود البشر على هذه الأرض، بل هي إرادة الله تعالى في ذلك.

لكن هل أثّر نزول آدم (ع) من الجنّة إلى الأرض من دوره وموقعه؟ بعض المفسِّرين بيّنوا بأنّ مكانة آدم (ع) لا تتحقق في الجنّة التي كان فيها، فهي منحةٌ من الله تعالى بلا جهد ولا عمل، بينما عندما نزل إلى الأرض مع حواء، فبلّغ وعانى وضحى وصبر وعمل في سبيل الله تعالى، ثبت على الاستقامة والرقي والطاعة لله تعالى، فاستحق بجدارة أن يكون من الأنبياء المعصومين المكرّمين عند الله تعالى، وسيدخل إلى جنّة الخلد بسبب عمله، فوجوده على الأرض كان سبباً لرقيّه، ولولا الأرض لما ارتقى آدم (ع). ونحن أيضاً لا نرتقي لولا هذه الأرض، بطاعتنا لله تعالى وأعمالنا الصالحة، وعدم ارتكابنا للمعاصي، ووقوفنا أمام التحديات. إذاً لم يكن النزول إلى الدنيا سلبياً بل إيجابياً، فهي مسرح العمل والطاعة للفوز بدرجات الجنة.

قال صاحب تفسير الميزان: "كان آدم (ع) مخلوقاً ليسكن الأرض، وكان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذه الطريق، وهي تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثمّ إسكان الجنّة، والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فتبدو لهما سوآتهما فيهبطان إلى الأرض، فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، وانتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة".

 

6- معنى التوبة:

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة/ 37). انتهت مرحلة جنّة آدم (ع) مع توبة الله تعالى على آدم (ع)، وعن أحد الأئمة (عليهم السلام): (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)، قال: سأله بحقّ محمّد (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام). هذه النتيجة بقبول التوبة، تعني عدم وجود عقوبة، وإرادة الله تعالى أن ينتقل آدم (ع) من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى. فالله عزّ وجلّ علّمه هذه الأسماء، وقال له ادعوني بها حتى اغفر لك، كمقدمة لترتيبات النزول إلى الأرض.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 38)، عندما تصبحون على الأرض ويأتيكم الهدى، والكتاب، والرسل، فإذا أردتم الفوز اتبعوا هدى الله تعالى، فأنتم منتقلون من دار المتاع المؤقت إلى دار المستقر والمتاع الدائم، (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 133)، فوجودنا على الأرض ليس مشكلة ولا عقاباً، بل لإرادة الله تعالى ذلك.

يقول البعض: إذا كان الله عزّ وجلّ يعلم مسبقاً بأنّ الواحد منّا سيكون في الجنة أو في جهنم، فلماذا خلقنا؟ الجواب واضح: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء/ 23). وبدل أن يسأل: لماذا خلقني الله تعالى لأدخل بعد ذلك إلى الجنّة أو إلى النار! فليسأل نفسه: لماذا يعصي الله تعالى وهو يعلم بأنّه سيدخل إلى النار إن عصا؟ ولماذا لا يُطيع الله تعالى وهو يعلم بأنّه يدخل إلى الجنّة إنْ أطاعه؟ على الإنسان أن يلتفت إلى مسؤوليته، فيتبع هدى الله تعالى، فإنّ النتيجة خاليةٌ من الخوف والحزن، وفيها جزيلُ العطاء الإلهي للمطيعين.

 

المصدر: كتاب مفاتيح السعادة

ارسال التعليق

Top