• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثمار التوبة.. المغفرة والرحمة

د. إيمان إسماعيل عبدالله

ثمار التوبة.. المغفرة والرحمة

◄قال تعالى في (سورة الزمر، الآية 53): (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "قال الله: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثمّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمّ لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".

خلق الله تعالى الإنسان ضعيفاً، ومن لوازم ضعفه أنّه ينسى ويسهو، يغفل ويغفو، يضعف ويقصر، ويغلبه الشيطان فيعصي. ولهذا شرع الله عزّ وجلّ التوبة وجعلها مفتاحاً لباب المغفرة حتى يلج العبد التائب في رحمة ربه متى ما تاب وأناب.

عن أهمية التوبة وأثرها في محو ذنوب العبد التائب، والواجب على التائب بعد توبته...

فالله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار، ليتوب مسيء الليل، وينادي، هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفِر فأغفر له؟

من فضل الله عزّ وجلّ على الإنسان أن فتح له باب الرحمة والمغفرة، وجعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وحذَّر ابن آدم من أن يكون ممن يؤخرون التوبة ويطول بهم الأمل حتى يرجعوا إلى الآخرة بغير عمل.

وحتى تكون توبة العبد مقبولة، فهناك أعمال واجبة مصاحبة للتوبة وجَّهنا نبينا الكريم (ص) نحو التقيد والالتزام بها، حتى لا تصبح التوبة مجرد قول باللسان.

فبعد أن تكتمل شروط التوبة من إقلاع عن المعصية وندم على فعلها وعزم على عدم العودة لها أبداً، يصبح على التائب أن يجتهد في درء الحسنة بالسيئة، ويكون ذلك باللسان والقلب والجوارح. فهو يجدُّ في التفكير عن ذنبه بالاستغفار والتضرع إلى الله تعالى سائلاً العفو والمغفرة. والاستغفار يكون بالقلب واللسان معاً وليس باللسان فقط، قال بعض السلف: الاستغفار باللسان توبة الكذابين.

لكن إذا ما أضيف إلى استغفار اللسان تضرع القلب وابتهاله إلى الله تعالى في سؤال المغفرة، عن صدق وإرادة وخلوص نية ورغبة، فهذه حسنة تصلح لأن تدفع السيئة. قال (ص): "ما أصرَّ من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرّة"، وقال أحد السلف: "العجب ممن يهلك ومعه النجاة. فقيل: وما هي؟ قال الاستغفار".

وعلى التائب أن يوطِّن نفسه على الأعمال والخصال الصالحة المكفرة للذنوب، ومن هذه الخصال مسامحة الناس والعفو عن زلاتهم، قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199)، وكذلك أن يضمر في قلبه الخيرات للمسلمين ويعزم على التزام الطاعات والعبادات، فيشغل جوارحه بعمل الطاعات والصدقات وأنواع العبادات، ويعمد إلى بدنه فيصرف طاقته في طاعة الله وتحري الحلال. وبالجملة فعليه أن يحاسب نفسه كلّ يوم ويتذكر جمع سيئاته الماضية، ويجتهد في دفعها بالحسنات.

 

-         عبادات تكفر الذنوب:

على التائب أن يُكثر من العبادة تقرباً لله عزّ وجلّ، ومن ألوان العبادات التي أخبرنا المصطفى (ص) أنّها مكفرة للذنوب:

الوضوء: قال (ص): "مَن توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره".

المشي إلى المسجد: قال (ص): "مَن راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعاً".

الصلوات الخمس: قال (ص): "أرأيتم لو أنّ نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه -أي من وسخه- شيء؟" قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: "فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".

صلاة الليل: قال (ص): "عليكم بقيام الليل، فإنّه دأب الصالحين قبلكم ومقربة لكم إلى ربكم وكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد".

الصدقة النافلة: وهي من الطاعات المكفرة للذنوب، وهي ما كانت غير الفريضة، قال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة/ 271).

 

-         من ثمرات التوبة:

عندما تصدُق توبة العبد وتتكامل أركانها، فإنّها تثمر رحمات ومغفرة وأجراً عظيماً من الله عزّ وجلّ. فمن ثمار التوبة تكفير السيئات حتى يصير كمن لا ذنب له، قال (ص): "التائب من الذنب كمن لا ذنب له".

ومن ثمارها تبديل السيئات حسنات، قال تعالى: (يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان/ 70)، جاء رجل هرم إلى الرسول (ص) وقال: أرأيت، رجل يعمل الذنوب كلّها فلم يترك صغيرة ولا كبيرة إلّا أتاها، فهل لذلك من توبة؟ فقال الرسول (ص): "فهل أسلمت؟". قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. فقال (ص): "تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهنّ الله لك خيرات كلهنّ" قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال (ص): "نعم".

وتثمر التوبة النصوح حُبَّ الله سبحانه وتعالى لعبده التائب، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، وفرح الله تعالى بتوبة عبده، قال (ص): "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد آيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثمّ قال من شدة الفرح: اللّهمّ أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح".

وإنّ الملائكة يدعون للتائبين، قال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (غافر/ 7). وهذه واحدة من أرجى الآيات في كتاب الله، قال فيها أحد السلف: إنّ مَلَكاً واحداً لو سأل الله تعالى أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم، كيف وجميع الملائكة، وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين؟ وقال خلف بن هشام: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت هذه الآية (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، بكى ثمّ قال: يا خلف ما أكرم المؤمن على الله، نائماً على فراشه، والملائكة يستغفرون له.

ومع ما ذكرنا فعلى المسلم أن يضع في ذهنه أن لا يجزم بقبول التوبة فيركن إلى نفسه ويطلق لها العنان فتغويه وتحمله على ارتكاب ما يغضب الله تعالى، بل يجب عليه أن يكون في حفاظ مستمر على توبته وخشية مستمرة عليها من النقض. ►

ارسال التعليق

Top